بانوراما الحراك.. غرور السلطة ووهم الرّهان على ملّة الصبر
كتب تامر خرمه
اعتداء البلطجيّة على المشاركين في المسيرة السلمية التي انطلقت بعد صلاة الجمعة في مدينة اربد، كشف مجدداً توجّهات السلطة للمرحلة المقبلة، حيث تفتّقت أذهان جهابذة الحرس القديم عن قرار اجترار ذات السياسات الكلاسيكيّة وإعادة تدويرها، بعد انتهاء فريق العلاقات العامّة من مهمّة تسويق العمليّة الانتخابيّة لدى الدول المانحة، التي اشترطت بدورها جملة إجراءات إصلاحيّة شكليّة لاستمرار تدفّق القروض والمساعدات.
دائرة مفرغة، تدور السلطة ضمن إطارها متوهّمة إمكانيّة إدارة الأزمة إلى الأبد، دون تقديم أي حلّ ينسجم مع استحقاقات المرحلة، ودون أن تدرك هذه السلطة أن الإصلاح إنّما يحقّق مصلحتها في حقيقة الأمر، فهو الضامن الوحيد لاستمرارها واستثناء الأردن من تطوّرات الربيع العربي.
تلبية الشروط الغربيّة واسترضاء المانحين، قبل العودة إلى ذات الأساليب التي انتهجها الحرس القديم منذ بدء الحراك الأردني، قد تكون آخر المغامرات التي تسبق انقلاب السحر على الساحر، لا سيّما وأنّ السلطة بصدد اتخاذ قرارات اقتصاديّة لن يكون نشطاء الحراك أوّل من يتصدّى لها، فخروج الأغلبيّة الصامتة عن ملّة الصبر بات مسألة وقت ليس أكثر.
فهل قرّر النظام الانتحار ؟ سؤال سبق وأن طرح نفسه بقوّة لدى محاولات قراءة وتحليل المواقف والقرارات الرسميّة المغامرة، والتي عبّرت عن نفسها مؤخراً بتعيين د. فايز الطراونة رئيساً للديوان الملكي، ومن ثمّ تكليفه بجلب أعضاء مجلس البروباغاندا النيابيّة للاتفاق على مكافآت تنفيذ املاءات المركز الأمني- السياسي.
هذا ما دفع حراك معان، المدينة التي يجدر بالسلطة أن تحذر غضبتها، إلى رفع شعار "طبخة فايز الطراونة" في فاعليّة الجمعة، التي شكّلت المطالبة بإنجاز تعديلات دستوريّة جوهريّة، تحقّق مبدأ "الشعب مصدر السلطات"، الحدّ الأدنى لمطالبها.. فبعد إصرار السلطة على تعنّتها وتجاهل المطالب الشعبيّة على مدى عامين، لم يعد في مطلب تعديل قانون الانتخاب، الذي كانت تطرحه النخب السياسيّة، ما يلبّي طموحات الحراك.. ولا يمكن لأيّ كان أن يراهن على استقرار الشعارات في حدود السقف الذي تدفع القرارات والتوجهات الرسميّة باتجاه تجاوزه.
كما أن هيمنة الأفكار العرفيّة على منطق رموز الحرس القديم، عبّرت عن نفسها عبر استدعاء نشطاء حراك "أحرار الطفيلة" إلى محكمة أمن الدولة، وذلك رغم وعود رئيس الوزراء عبدالله النسور بإغلاق هذا الملفّ، الأمر الذي أثار غضبة الطفيلة، لتتجاوز مجدّدا ما تصرّ السلطة على تسميته بـ "الخطوط الحمراء"، في فعاليّة الجمعة التي جاءت تنديدا باستمرار مغامرة القبضة الامنيّة وملاحقة النشطاء.
النظام قرّر أن يتجاهل الحقائق التي طفت إلى السطح خلال هبّة تشرين، حيث كان نشطاء الحراك الشعبي يحرصون على حماية المؤسّسات العامّة، والحيلولة دون تفاقم الفوضى، عندما انتفضت الاغلبيّة الصامتة، التي تصرّ السلطة على استفزازها مجدّدا بما تتّخذه من قرارات مقامرة.. ولا يمكن إدراك ماهيّة المنطق الغريب الذي سيطر على أذهان صنّاع القرار عندما اعتقدوا أنّه باعتقال عدد من النشطاء يمكنهم الوصول بمغامراتهم إلى شط الأمان !!
الملاحقة الأمنيّة، واتّهام النشطاء بتقويض النظام، وتوجيه مجموعات البلطجيّة للاعتداء على الفعاليّات السلميّة، ومحاولات تشويه الحقائق وقلبها عبر وسائل الإعلام الرسميّة، وما إلى ذلك من أساليب، أثبتت عدم نجاعتها وقدرتها على كبح جماح الحراكيّين، ولكن لنفرض جدلاً أن هذه الخطوات نجحت في تحقيق غايتها، والتزم النشطاء منازلهم -أو زنازين السلطة- فهل يضمن مطبخ العباقرة أن يقنع الشارع بالتزام صبره والقبول بمصادرة خبزه وكرامته إلى الأبد ؟! خاصّة وأن أعتى الأنظمة البوليسيّة في المنطقة العربيّة فشلت في تحقيق هذا الأمر عبر الأدوات الأمنيّة البائدة.
ليس المقصود بطرح هذا التساؤل توجيه النصح للسلطة التي لا تستمع إلاّ لما تمليه عليها رغباتها الجامحة، وإنّما على مختلف القوى السياسيّة والشعبيّة الرهان على الشارع قبل أي شيء آخر، والتوقّف عن سياسة العزف المنفرد على أوتار المطالبة باعتراف سياسي من قبل النظام، للوصول إلى محاصصة تستحيل ديمومتها.
فعاليّات الجمعة التي غابت مؤخرا عن العاصمة عمّان، عادت لتتّخذ ساحة "الحسيني" مكاناً لانطلاقها، رغم تطوّرات الأوضاع التي تستوجب التوجّه إلى مختلف الأحياء الشعبيّة لاستنهاضها، والخروج من دائرة توجيه الرسائل للسلطة عبر مناطق الاستقطاب الإعلامي.
كما أن العودة إلى تكريس ثنائيّة الصراع بين السلطة والاسلاميّين عبر اقتصار تنظيم هذه الفعاليّة على الحركة الاسلاميّة، لن يؤدي، حتى في أحسن الأحوال، إلى تمكين النخب السياسيّة من تشكيل حالة طليعيّة تقود الشارع في معركة التغيير السلمي، وإنّما ستبقى محاولات الاستعراض السياسي واستجداء الشراكة مع السلطة في حيّزها النخبويّ.. وفي اللّحظة التي سينتفض فيها الشارع إثر حالة الغرور التي تقوّض النظام، سيكون من الصعب على هذه النخب أن تنجح في مهمّة القيادة والتنظيم.
وفي نهاية الأمر، فإن عودة العقليّة العرفيّة رغم كلّ التطوّرات التي تعصف بالمنطقة، شكّلت العامل الأساسي لاستنهاض الحراك بعد ان انحسر في الآونة الأخيرة إلى أدنى مستوياته.. كما أن استفزازات السلطة تأتي في الوقت الذي نشهد فيه عودة الاحتجاجات العمّاليّة -التي سبقت الربيع الأردني- للهيمنة على المشهد، الأمر الذي يتيح لنا القول بكلّ صراحة أن النظام يصرّ على تقويض ذاته، وما على القوى الطليعيّة سوى التوجّه إلى المناطق الشعبيّة، والتحدّث بلغة الناس، فالأغلبيّة الصامتة لن تبقى صامتة إلى الأبد.