إعادة ترتيب المجال الديني
لكي نفهم التحولات التي تجري في مجالنا الديني يفترض ان ننتبه الى مسألتين: احداهما تنحية "التدين” السياسي عن منصة الحضور وسحب البساط من تحته لأسباب ذاتية أو خارجية، أما الأخرى فهي الاستغناء عن خدمات "التدين السلفي” واعتباره حليفاً غير مرغوب فيه.
لا شك أن حضور هذين النمطين من التدين فيما مضى شكل حالة من التوازن (توازن الردع ان شئت) حيث جرى استخدام كل نمط لمواجهة النمط الآخر، كما انه ساهم، بدرجة ما في خدمة الدولة في مراحل مختلفة كان مطلوباً أحدهما او كلاهما لتحقيق ذلك.
في المقابل، ألحق الصراع بين النمطين بحالة "التدين” العام للمجتمع، وكذلك بالمزاج الديني الشعبي، بعض الإصابات، صحيح ان التدين السياسي ظل مشغولاً بالنشاط السياسي (والدعوي بدرجة أقل) بعيداً عن نقاشات المذاهب الفقهية، بعكس التدين الآخر الذي انشغل بالفقه على حساب الدعوة والسياسة معاً، لكن الصحيح أيضاً هو ان حالة "التدين” العام بقيت أسيرة لهذه الثنائية رغم وجود تيارات أخرى ظلت تعمل تحت الأرض، سواءً بدوافع ذاتية او لأسباب خارج ارادتها.
هذه التحولات في المشهد الديني تزامنت مع بروز نجم التطرف، بما ترتب عليه من ولادة تنظيمات تتحدث باسم الدولة والخلافة، ومن تحالفات سياسية استثمرت في هذه الظاهرة، ومن مواقف دولية حاولت أن تصنف الدول تبعاً لانحيازاتها الدينية.
بعد إزاحة النمطين – ولو تدريجياً- كان لا بد من البحث عمن يملأ الفراغ، وهذا ما حدث فعلاً في اتجاهين: الأول تمكين المؤسسة الدينية الرسمية من القيام بأدوار منضبطة ومدروسة وبشكل متناسق، والاتجاه الآخر تشكيل أرضية "فقهية” متنوعة وموحدة تمهيداً لبناء " مرجعية " دينية رسمية تتمايز مع غيرها من المرجعيات السائدة، وتعيد، بالتالي، رسم الخرائط الدينية والمزاج الديني للمجتمع بطريقة جديدة.
كان السؤال المطروح – عندئذ -: من هو الفاعل الديني القادر والمؤهل على القيام بهذه الوظيفة من خارج المؤسسات الدينية؟ الإجابة بالطبع كانت حاضرة أيضاً، وهي مجربة في بعض الدول التي سبقتنا إلى تأميم المجال الديني، فقد استحضر الصوفيون من زواياهم واستدعوا من حلقاتهم، واثبتوا أنهم الحليف الأكثر "مطواعيّة” وهذا ما حصل فعلاً.
لا يسمح لي المجال – كما يدرك القارئ الحصيف – ان استرسل في التدقيق، ناهيك عن تقييم التجربة التي ما تزال في بداياتها، لكن لدي ملاحظتين على الهامش، الأولى ان مجتمعنا سيشهد في السنوات القادمة تحولات في المزاج الديني، وتغيرات مهمة ستنعكس على الحالة الدينية من حيث الفاعلون فيها، والارضيات الفقهية وما يترتب عليها من نشاطات، او بمعنى آخر إعادة تشكيل وترتيب وتأثيث للمجال الديني العام بكل ما يتعلق فيه من مضامين وأدوار وآليات، أما الملاحظة الأخرى فهي أن هذه التجربة ستؤسس لتحالف جديد بين الديني والسياسي، بحيث يكون السياسي هو الفاعل الأساس والضابط لحركة الديني بما ينسجم مع خياراته واضطراراته واستحقاقاته.
يبقى السؤال: هل أصبنا أم أخطأنا...؟ هذا يحتاج الى مقال آخر