الهبة الأردنية..
رندا حتاملة
جو 24 :
يشكل حراك النقابات المهنية الذي هيّجه تعديل قانون ضريبة الدخل ، حراكاً شعبياً سياسياً نُخبوياً ضخماً ، لم تشهده الدولة الأردنية منذُ "هبّة نيسان" عام ١٩٨٩م ، عندما ضرب الأردنيون بيدٍ من حديد أطاحت بقرارات وحكومة زيد الرفاعي آنذاك ، وبعد "هبّة نيسان" جاءت " ثورة الخبز" عام ١٩٩٦م وتحرك الأردنيون من الجنوب إلى الشمال وأطاحوا بحكومة عبد الكريم الكباريتي ، وعلى غرارها جاءت "هبة تشرين" عام ٢٠١٢م في عهد حكومة عبدالله النسور إثر قرار رفع سعر إسطوانة الغاز ومعظم السلع الأساسية وتجاوزت المطالب الشعبية وقتها التراجع عن قرار رفع الأسعار إلى المطالبة بالإصلاح السياسي من تعديل قانون الإنتخاب والأحزاب إلى محاسبة الفاسدين وارتفع سقف الإحتجاج والمطالبات في سابقة لم يشهدها الأردن إلا أن العدد الأكبر من المواطنين الأردنيين كان همهم قوت يومهم وإبطال القرارات التي تمس جيوبهم وعيشهم بشكل مباشر وإنقضى حراك "هبّة تشرين" بعد تلقي الشعب التعويض المادي وإقتصر الحراك فيما بعد على مجموعات سياسية متفرقة ، صغيرة العدد لم تُشكل قوةً ضاغطة نظراً لصغر عددها وتشتت مطالبها ، وتلك المجموعات السياسية كان نشاطها الحراكي قبل "هبّة تشرين" من عام ٢٠١١م متأثرةً برياح ثورات الربيع العربي بعضها يطمح بالتغيير وبعضها يطمع بالمنصب والشهرة وبعضها يطالب بالإصلاح إلا أنها لم تحقق النجاح الذي كانت تطمح إليه للأسباب التي أسلفتُ ذكرها .
وهذا التتبع لسلم تاريخ الحراك في الأردن ومقارنة دوافع ونتائج كل حراك تجعلنا ندرك أن الحراكات الشعبية هي التي حققت نجاحاً وتغييراً حقيقياً ، وهنا يجب أن نفرق ونميز بين الحراك الشعبي والحراك السياسي فالحراكات الشعبية التي نجحت بتحقيق مطالبها في الأردن لم تكن منتمية لأي تنظيم سياسي وكانت مطالبها مطالب شعبية بحتة ولا تحركها أجندات حزبية ولا أيديولوجيات سياسية فكانت ضاغطة بعددها ومطالبها المحددة والواضحة والتي يهمها المصلحة العامة للشريحة الأكبر في المجتمع وشعبية ، بنكهة المواطن البسيط الذي يطمح بحياةٍ كريمة دون أن يفكر بما هو أبعد من ذلك ودون أن يطمح بأيدولوجيات وسياسات أهل الأحزاب والسياسة ، بينما الحراك السياسي الذي تقوده الأحزاب وأصحاب الأجندات السياسية لم يلقى رواجاً في الأردن ذلك لأن لطبيعة التركيبة الحزبية غير المتجانسة في الأردن ، فجبهة العمل الإسلامي في واد والأحزاب القومية و اليسارية والشيوعية في وادٍ آخر ولم يتفقوا على كلمةٍ سواء وإختلافهم في الآراء لم يفسد الود فحسب وإنما أفسدَ جُلَ القضية ، إضافة لأن الأردن معظم فئاته في كنف الخدمة العسكرية فلايكاد يخلو بيتاً أردنياً من عسكريٍ موالٍ لكل السياسات ، ولأن الشعب الأردني يحكمه الإنتماء والولاء وحب القيادة بالفطرة نجده وديعاً مسالماً يحمد الله على الأمن والأمان ولايبدي أدنى تذمراً ، فنجد بأن الحراك السياسي الذي تقوده بعض النخب السياسية يبوء بالفشل بحكم تركيبة الأردنيين .
لكن اليوم يجتاح الدولة الأردنية موجةُ حراكٍ مختلفة تماماً عن الحراكات السابقة نُخبوية وشعبية في آنٍ معاً فالنقابات وقطاع الصناعة هم الشريحة الأكبر والأكثر نُخبوية إجتماعياً وثقافياً وهم الشريحة المتعلمة والناضجة والمتوسطة في طرحها والتي يكمل بها توازن الوطن وهي السواعد التي تبني وهي القوة الضاغطة والأكثر حضوراً في كافة المجالات الصحية ، الطبية ، الهندسية، الحقوقية ، التعليمية ، والإعلامية . والقوى التي كانت أقرب من هموم المواطن من مجلس النواب المُنتَخب ، والقوى التي ضربت يوم الأربعاء بيدٍ من حديد والتي لن تتراجع عن مطلبها ، اليوم الدولة الأردنية حكومةً وشعباً أمام منعطفٍ خطير لابد للحكومة أن تستعمل التدرّج والحكمة والعمل على تهدئة الوضع بدل الفرملة المفاجئة التي لن تخدم بصدمتها الجميع، فثمة أكثر من جرح ملتهب في الأردن لن تجدي معه سياسة التعتيم الإعلامي فرائحة الجرح تجاوزت حدود الوطن ووصلت لأجهزة الإعلام العربية والغربية ، ومازالت الحكومة تضغط على الجرح لينزف أكثر وبصلافة ترفع أسعار المحروقات وكأن أنين يوم الأربعاء لم يوقظها بعد، بالأمس إنتفض الشارع إحتجاجاً ولم يهدأ إلا بتدخل مباشر من جلالة الملك بأمره الحكومة أن تعدل عن قرارها وعندما يتدخل جلالة الملك بشكلٍ مباشر يعني أن الحكومة والنواب فشلوا فشلاً ذريعاً ، وبأن المرحلة القادمة لن يتوسط بين الشعب وجلالة الملك أي وسيط لاحكومة ولا نواب ، ولن نعبر من هذا السرداب إلا بسواعد الشعب وبقيادة جلالة الملك فليتعظ الملقي وليقرأ وليتتبع تاريخ الحراك السياسي الأردني .
نسأل الله في هذا الشهر الفضيل أن نعبر الأزمة وأن يهدي الله الحكومة ، ويحفظ الأردن مليكاً وشعباً.