بين فكي القادم و القائم..!
لا يخطر في بالي ان اشتبك مع دعاة «الوضع القادم «، هؤلاء الذين يرفعون لافتة الاردن الجديد، ولا مع منتقدي « الوضع القائم « الذين يعتقدون ان تعطيل ماكينة الاصلاح تم بقصد من قبل اشخاص (لا نعرف من هم ؟) ليس لهم مصلحة في التغيير، اريد فقط ان اشير الى ان وضع بلدنا بين فكي معسكرين متصارعين لكل منهما حساباته واجنداته ومصالحة التي لا نعرف مدى اقترابها (لكي لا نقول تطابقها ) مع قيم الدولة ومصالحها ومع حاجات المجتمع وطموحاته، مسألة خطيرة سبق لنا ان جربناها حين تصارعت مناطق النفوذ على اجندات لا علاقة لمجتمعنا بها، وبالتالي فان ما اخشاه هو ان يعيدنا هذا الاشتباك مرة اخرى الى دائرة «صراع القوى»، ويفوت علينا اي فرصة للاصلاح.
افهم بالطبع ان اي تغيير او اصلاح يحتاج الى مخاضات وتضحيات، والى عملية «خض» للمجتمع، كما افهم ان هنالك رابحون وخاسرون من اي تغيير، وبالتالي فان الخاسرين سيدافعون عن «الوضع القائم « للحفاظ على امتيازاتهم، لكن ما يجب ان نفهمه قبل ذلك ونضعه بعين الاعتبار مسألتان : الاولى هي ان العلاقة بين النخب والمجتمع، ما زالت ملتبسة وغير واضحة، فمعظم النخب في بلادنا - على اختلافات توجهاتها - لا تمثل بشكل واضح أغلبية المجتمع، وبالتالي فان ما تقدمه من وصفات للاصلاح لا تتطابق تماماً مع ما يريده الناس، ومع أولوياتهم ايضاً.
اما المسألة الاخرى فتتعلق بتركيبة المجتمع الاردني، واذا ما اتفقنا على ان هذه التركيبة غير متجانسة تماما بما يكفي للتوافق على اهداف وعناوين محددة تجاه مشروع الاصلاح، فان من الطبيعي ان يكون لكل طرف وصفته التي يراها الافضل، ولكل طرف مخاوفه وهواجسه التي لا يجوز ان نتعامل معها بمنطق الاهمال أو الرفض والاتهام.
أعرف تماما ان ثمة عناوين متفق عليها في المجتمع حول الاصلاح من ابرزها عنوان مكافحة الفساد واصلاح الاقتصاد واصلاح الادارة والقضاء..الخ، لكن ماذا عن العناوين الاخرى التي تتعلق بما تتطلبه الدولة الديموقراطية من اصلاحات جذرية سواء اكانت مرتبطة بالدستور اوبقانون الانتخاب أو حتى غيرها من المطالب السياسية التي ارتفعت سقوفها مؤخرا؟
اذا اردنا ان نخرج من حالة الاشتباك دعونا نتفق هنا على ان الاردنيين يطمحون الى اصلاح تحت عنوان واحد وهو : ان تكون دولتهم دولة عادلة ثم نضع (نقطة)، والعدل هنا متعلق بسيادة القانون، ولا يمكن لأي قانون ان يحظى بالعدالة والسيادة الاّ اذا كان افرازاً للديمقراطية الحقيقية التي تضمن مسألتين: احداهما ان يتولى الناس ادارة شؤونهم من خلال ممثلين يختارونهم، ومؤسسات يشاركون فيها على اساس المواطنة التي تقرر لهم المساواة في الحقوق والواجبات، اما المسألة الثانية فهي ذات بعد اخلاقي، حيث لابدّ ان تستند هذه الديمقراطية لمرجعية اخلاقية ترقي بسلوك الناس وتهذب طباعهم، وهذه المرجعية هي روح الديمقراطية التي تحررها من صفتها «الآلية» وتسمو بها فوق «المرجعات» المختلفة، وتستند المرجعية الاخلاقية هنا الى «مشتركات» المجتمع التي تتوافق عليها اغلبيتهم على اساس احترام العقائد والافكار والنظام العام.
الدولة العادلة بهذا المعنى تستمد «مدنيتها» من مدنية المجتمع، فالمدنية تنصرف للمجتمع لا الى الدولة، لأنه لا يوجد في خبرتنا التاريخية دولة دينية اصلاً، كما ان بلدنا لم يقم على حكم عسكري، وبالتالي فإن الدولة المدنية كما وصفها الملك في احدى اوراقه النقاشية هي دولة مؤسساتية وليست علمانية، مؤسساتية ينتصر فيها القانون للجميع، وغير علمانية حين ينصرف هذا المصطلح الى خصومة مع الدين، او حين يوظف لحساب طبقة سياسية ضد اخرى.
من يباشر هذه المهمة اذا..؟ يعتقد البعض ان مجتمعنا يبدو الآن وكأنه عاجز عن تقديم ممثلين له، يتحدثون باسمه ويدافعون عن قضاياه، وهذا العجز المتخيل والمصطنع دفع آخرين الى التسلل للواجهة، لاعادة التذكير بأنفسهم، وتلميع صورتهم واقناع الجمهور بأنهم مازالوا حاضرين في المشهد، وشركاء في صناعته، وجاهزون لاستئناف الدور الذي بدأوه والوظيفة التي استقالوا منها.
الحقيقة اننا بحاجة الى «كتلة تاريخية « اردنية تتحرك وتتوافق على هدف واحد اشرت له سلفا وهو اصلاح يضمن دولة عادلة..اذا سألتني من هي هذه الكتلة وممن ستتشكل،سأجيبك ان هذا الموضوع سبق واشرت اليه اكثر من مرة ويحتاج الى نقاش آخر، ربما في مقال قادم ان شاء الله.