في وداع ياسر المصري
لم يخطر في بالنا للأسف ان نكرم الفنان ياسر المصري رحمه الله حين كان يعيش بيننا، لكن حين فاجأنا برحيله صحت مشاعرنا وضمائرنا فبكينا عليه وتذكرنا كيف اعاد الينا صورة الاردني الشهم والاصيل، وكيف انعش ذاكرتنا بنماذج البطولة البدوية، وكيف كان انسانا مثلما كان فنانا مبدعا .
كالعادة، حين نخسر احباءنا نتذكرهم، وحين يغيبون عنا نفزع لتكريمهم، لكن المشكلة ليست هنا فقط مع عزيز رحل، ولا مع فنان قصرنا معه ثم اعتذرنا على تقصيرنا حين افتقدناه، وانما مع قضية اكبر: وهي اننا في لحظة «غفلة» منا جميعا قررنا «اغتيال» الفن في بلادنا، و تعمدنا إشهار رصاصة «الرحمة» على الإبداع، ثم تواطأنا على تخليص مزاجنا العام من «رطوبة» الذوق والثقافة.
نعم، يذكرنا رحيل ياسر المصري بأزمة الفن والفنانين في بلادنا، كما تذكرنا ابداعاته التي لم تأخذ حقها من الاحتفاء والنقاش بما انتهينا اليه حين غاب الفن الراقي عن حياتنا، وهرب أهله منه الى «البحث» عن المعاش، وحين غابت الثقافة الأصيلة، وملأ آخرون «دروبها» بالانتهازية والابتزاز، حين حصل ذلك افتقد مجتمعنا «عافيته» وافتقدنا احساسنا بالناس وقضاياهم، واصبحت أرواحنا «يابسة» تماما، وصدورنا موحشة، ذلك ان غياب الثقافة والفن من حياتنا أحد أهم الاسباب التي تقف وراء ما نعانيه من يأس وقلق ووحشة وعدم يقين.
قلت فيما مضى ان الفنان والمثقف حين يصرخ او يئن تحت وطأة الاحساس بالتهميش والاقصاء، أو الجوع والعوز، ثم لا يجد أحداً يسمعه أو يرأف بحاله أو يعتذر اليه من هذا الاهمال، فمن واجبنا ان ننتبه الى عمق «الأزمة» التي يعاني منها مجتمعنا، لا اتحدث هنا عن الفن الرخيص والثقافة المعلبة، ولا عن الفنانين العابرين والمثقفين «تحت الطلب» وانما عن الفن الراقي الذي كان ياسر احد اعمدته، وعن الثقافة المنتجة التي غيبنا اصحابها احياء وراحلين، هؤلاء الذين يشكلون «ضميرنا» العام.. عندما فعلنا ذلك اصبحت «أزمتنا» خطيرة، لانها تتعلق بتعطل «الضمير» وغياب الجمال والأنس، وتشويه الوعي، مقابل صعود الكراهية وبروز القبح والوعي الزائف، والتطرف والعنف ايضاً.
هل بوسعنا الان ان نفهم سر هذه العلاقة الطردية بين انحدار اهتمامنا بالفن والإبداع وبين التحولات التي طرأت على مجتمعنا، والقيم الجديدة التي نشأت وترعرعت في ظل مناخات سياسية غير مفهومة، حيث تراجعت قيم النظافة والذوق الرفيع وقيم الوطنية السامية لمصلحة قيم الشطارة والنهب والتزلف، وهذه القيم كلها ضد رسالة الفن والإبداع.. ونقيض الثقافة والوعي، ولو اعدنا الذاكرة فقط لحقبة الستينيات وحتى منتصف الثمانينيات لاكتشفنا عمق هذه التحولات الاجتماعية والثقافية التي ولّدت «فجوة» الانفصال بين الفن والإبداع كمشروع في خدمة الدولة وبين ما انتهى اليه كفائض عن الحاجة بعد ذلك.
ما حدث مع ياسر المصري رحمه الله ومع غيره من الفنانين الاردنيين في السنوات الماضية، وما حدث كذلك للثقافة والإبداع، لم يكن صدفة، صحيح أن أهل «الفن» ابتلعوا حسرتهم طيلة السنوات الماضية ربما انتظارا للفرج، وصحيح انهم يتحملون جزءا من مسؤولية التقصير، لكن الصحيح ايضا ان الحكومات لم تلتفت اليهم، حتى حين خرجوا الى الشارع للمطالبة بحقوقهم او حين صحونا على صرخات الموت و»الرحيل» التي اخذت بعضهم منا، او صدمة الندم التي راودتنا في لحظة اكتشفنا فيهم انهم قدموا الينا اعمارهم دون ان نقابلهم بكلمة : شكرا.
معنا حق حين نودع ياسر المصري، الفنان والانسان، بكل هذه المشاعر الجياشة، وحين نفتقدة و نعتبره رمزا من رموز بلدنا الحقيقيين لا اولئك الذين ينتسبون للصناعة «التايوانية المقلدة»، ومعنا حق حين ننتقد تقصير مؤسساتنا معه ومع اخوانه المثقفين والفنانين، لكن هل كنا نتصور ان سياسات احتفت بالحجر أكثر من البشر يمكن ان تقيم وزنا «للفن» وان تحترم ذائقة الناس بعد ان حولتهم الى مجرد «افواه» واعداد، او يمكن ان تضع «الجمال» في اعتباراتها؟
رحم الله الفنان ياسر المصري الذي رحل وهو في قمة العطاء، ويكفي ان اقول على هامش هذه المناسبة الحزينة كلمة واحدة : ان عزاءنا في افتقاده هو بما تركه لنا من اعمال فنية رصينة، ومن نموذج ملهم لأجيالنا في خدمة الناس ومحبتهم، وفي الانتماء للبلد والاخلاص لقضاياه.
رحمة الله عليك يا ياسر