تقرير للمحاسبة أم للمكاشفة فقط..؟
التجاوزات التي تضمنها التقرير السنوي لديوان المحاسبة (2017) لم تكن مفاجئة، فعلى امتداد السنوات الماضية تكررت هذه التجاوزات بشكل او بآخر، لكن اللافت ان معظم هذه التقارير غالباً ما تدرج في الأرشيف او تستخدم فقط لغايات بروتوكولية حين تسلم للحكومة او لمجلس النواب، فيما يتناولها الاعلام بمنطقة التشهير أحيانا او الاستفزاز أحيانا أخرى.
صحيح أن المؤسسات تحسب حسابا لمدققي الديوان، وأن الاعلام يقوم في الغالب بنشر بعض المخالفات التي يتضمها التقرير، لكن الصحيح هو أن هذه السلطة الأخلاقية ومعها الإعلامية لا تكفي لدفع المؤسسات الى تصحيح أخطائها، ولا - أيضا- لمحاسبتها عليها، زد على ذلك أن المخالفات الكبرى المحسوبة على صفقات الفساد الأكبر تبقى خارج تغطية الديوان، و بالتالي فإن حصاد التقرير على الواقع يبدو متواضعا، ولا يلبي مطالب الرأي العام الذي مازال يعتقد بأن عين الفساد لم تكسر بعد، وبأن العدالة ما تزال مجروحة.
التقرير الأخير جاء في توقيت حساس حيث يمر بلدنا بأصعب ظرف اقتصادي، وينتظر المواطنون عاماً جديدا من «شدّ الاحزمة» على البطون بعد او وعدتهم الحكومة في الموازنة بتوفير نحو مليار دينار من جيوبهم، وحيث يتكرر السؤال عن ملفات الفساد التي طويت، وعن جدوى ان يتحمل الناس ضريبة إنقاذ البلد من العجز والمديونية فيما المحظوظون من طبقة بعض المسؤولين يتمتعون برواتب ومكافآت فلكية، وفيما تجاوزات الدوائر الحكومية – كما أشهرها ديوان المحاسبة- تتصاعد ولا تجد من يسألهم او يحاسبهم عليها.
ربما يعتقد البعض ان هذه التجاوزات تبدو صغيرة مقارنة بحجم أجهزة الدولة الكبير، او مقارنة بملفات فساد كبرى مرّت كالسحاب خلال السنوات الماضية ونجا أصحابها من المحاسبة، هذا صحيح، لكن يبقى الفساد سواء اكان صغيراً ام كبيراً مرفوضاً، لأن من يتجاوز على المال العام بدنانير قليلة يمكن ان «يلهف» الملايين لو كان في موقع يسمح له بذلك، ثم ان أسوأ ما تتضمنه نوعية التجاوزات التي سجلها التقرير الأخير هو حالة البذخ والاستهتار بالمال العام التي يعيشها بعض المسؤولين الذين آمنوا العقوبة فأساؤوا التصرف.
كلفة الفساد والتجاوزات على المال العام، لا تتعلق فقط بما تخسره الموازنة من أموال، ولا ما تخسره من «سمعة» لبعض المؤسسات التي يفترض ان تقدم نموذجاً أفضل في النزاهة والاستقامة، وانما تنعكس أيضا على قيم مهمة تتعلق بانتماء المواطن لبلده وحرصه على موارده والتزامه بقوانينه، وعلى موقفه من الحق العام والسلوك العام والمزاج العام ايضاً.
ذلك انه حين يشعر الناس بانتصاب موازين العدالة على مسطرة واحدة يقف امامها الجميع، مسؤولون ومواطنون، وحين يطمئنون الى ان حرص من يجلسون على مقاعد السلطة والقرار على المال العام لا يقل عن حرصهم، عندئذ لن يترددوا بالتضحية من اجل بلدهم بكل ما يملكون، ولن تأخذهم موجات المظلومية والغبن الى الانتقام من أنفسهم او من مجتمعهم.
بقي لدي نقطتان: الأولى ان تقرير ديوان المحاسبة يفتح امامنا فرصة للتذكير بضرورة إعادة هيكلة الجهاز الحكومي، وتطوير الإدارة العامة في بلدنا كما انه يفترض ان يدفعنا الى إعادة النظر في أسس تعيين المسؤولين خاصة الذين يسقطون بالباراشوت وبلا أسس ومعايير من الكفاءة والاحقية ناهيك عن تمكين ديوان المحاسبة من حق المحاسبة على تجاوزات الدوائر الحكومية بإعطائه صفة الضابطة العدلية لان دوره وفق القانون لا يتجاوز دورالمكاشفة والرصد او المؤرخ المؤرشف، ناهيك عن ضرورة قيام مجلس النواب ( دعك من الحكومة المعنية اصلا بذلك) بدوره في مناقشة هذه التقارير التي لم يناقش منها الا تقريرين فقط،.
اما النقطة الثانية فتتعلق بأخذ ما يصدر عن ديوان المحاسبة من تقارير بعين الاعتبار عند قياس أداء المؤسسات او تجديد العقود والتعينات للمسؤولين وتدوير المناصب بينهم، ذلك انه لا يعقل ان تفوز بعض هذه المؤسسات بجوائز الدولة للكفاءة وحسن الاداء او يظل هؤلاء المسؤولون في دائرة «الحظوة» بعد ان انكشفت تجاوزاتهم، كما لا يجوز ان تمر تجاوزاتهم دون محاسبة ثم يبقون يمثلون علينا دور «الابطال».الدستور