قراءة في البيان الوزاري
كتب تامر خرمه
"كلاشيهات" إنشائية، اختزل فيها رئيس الحكومة د. عبدالله النسور برنامج عمل السلطة التنفيذيّة للسنوات الأربع المقبلة، حيث لم يأت البيان الوزاري بأي جديد فيما يتعلّق بمعالجة الأزمة المركّبة التي تشهدها البلاد، بل أعلن الرئيس إصرار حكومته على المضي بسياسات إعادة تدوير الأزمة، وتحميل المواطن تبعاتها ونتائجها !
أمّا لجوء النسور إلى استخدام بعض العناوين العريضة، دون التطرّق لآليّات ترجمتها على أرض الواقع، كعودة الخدمة العسكريّة، وتطوير القطاع التعليمي، وتوفير آلاف فرص العمل، وتنمية المحافظات، والانتصار لقضيّة المرأة.. وما إلى ذلك من عناوين دأبت الحكومات المتعاقبة على ترديدها واجترار مفرداتها النظريّة، فمن الواضح أنّها مطروحة للاستهلاك الإعلامي البحت، حيث أثبتت السنوات الماضية استحالة تحقيق مثل هذه التعهّدات المتكرّرة عبر ذات التوجيهات والسياسات الرسميّة التي تفوّق النسور في إبداء التزامه بها دون أيّ اعتبار لطبيعة المرحلة.
النسور أعلن مجدّدا في بيانه الوزاري تمسّكه بنظريّة "الرفع"، معتبرا أن عدم رفع الدعم عن السلع الأساسيّة من شأنه أن يقود إلى تفاقم العجز، ليعلن -مرّة أخرى- انحيازه المطلق ضد خبز الناس وقوتهم اليومي، إلاّ أنّه فضّل هذه المرّة تغليف توجهاته ببعض مفردات الخطاب القومي الكلاسيكي، كأولويّة القضيّة الفلسطينيّة والحرص على سوريّة، وما إلى ذلك من مفردات يدرك الرئيس جيّدا أنه لن يكون صاحب القرار في ترجمتها إلى مواقف وتوجّهات سياسيّة، حتى وإن كان "أقوى من المخابرات" كما يعتبر نفسه.
الغريب في الأمر أن الرئيس انتقل في خطابه الإنشائي من إبداء الحرص على سوريّة إلى تحميل اللاجئين السوريين مسؤوليّة تردّي الأوضاع الاقتصاديّة في البلاد، وكأن الازمة الاقتصاديّة ظهرت فجأة بوصول اللاجئين، بل ويذهب إلى اعتبار أنّهم يشكلون تهديدا للأمن الوطني، وكأنّهم هم من يتحمّل مسؤوليّة السياسات التي انتهجتها السلطة حيال هذا الملف !!
وكما اعتدنا عند سماع أي بيان وزاري، شكّل التسويف كلمة السرّ لهذا الخطاب النمطي، ليطلق النسور العنان لوعوده وتعهّداتها المتعلّقة بتشكيل حكومات برلمانيّة، وكأن السلطة تمتلك الإرادة الحقيقيّة لتحقيق هذا الهدف، فهل تمكّن النسور -بكلّ هذه السرعة- من نسيان العبث الذي آلت إليه مشاوراته، وقبلها مشاورات رئيس الديوان الملكي فايز الطراونة، مع أعضاء المجلس النيابي ؟!
أمّا وعود النسور المتعلّقة ب "ضرب" منابع الفساد، فلم تكن سوى اعتراف ضمني بأن محاسبة الفاسدين كانت تتمّ بطريقة انتقائيّة لم تتجاوز حدود تصفية الحسابات.
وعلى ما يبدو فإن النسيان يجد طريقه إلى ذهن الرئيس بسرعة غريبة، فقد نسي النسور بعد استئناف هذه الجلسة التي رفعها رئيس المجلس النيابي ما دار في بدايتها من مشادّات عند التطرّق إلى الاعتداء الذي تعرّضت له المسيرة السلميّة في اربد يوم الجمعة الماضي، ليعلن في "خطابه الوزاري" أن "الأردن أصبح انموذجاً يحتذى به".. وأن وتيرة الاصلاح تسارعت منذ العام 2011 !!
كما باغت النسيان رئيس الوزراء عندما أعلن تأييده لحريّة الرأي والتعبير في الوقت الذي مازال فيه النشطاء يتعرّضون للسحل في الشوارع بسبب تعبيرهم عن آرائهم ومواقفهم السياسيّة، وفي الوقت الذي مازال فيه قانون المطبوعات العرفي -الذي سبق وأن تعهّد النسور بتجاوزه- يقيّد الصحافة المستقلّة ويمهّد لفرض صحافة الرأي الواحد.
"الإصلاح" الذي يتحدّث عنه النسور أدّى إلى إقصاء ثلثيّ من يحقّ لهم التصويت من الأردنيين عن المشاركة السياسيّة، وأدّى إلى محاكمة المدنيّين أمام المحاكم العسكريّة، واتهام من يطالب بمكافحة الفساد ب "تقويض نظام الحكم"، ناهيك عن حالات التعذيب في السجون ومراكز التوقيف، والاعتداءات المتكرّة على المشاركين بالفعاليّات الاحتجاجية السلميّة، المطالبة بالإصلاح !!
وبفضل "نعمة النسيان" أيضاً، أشاد النسور بدور وزارة الخارجيّة في متابعة قضايا الأردنيّين خارج البلاد، متجاهلاً في مجاملة الوزير العابر للحكومات كافّة المعتقلين الأردنيّين في سجون الاحتلال "الاسرائيلي" وفي سجون الدول العربيّة التي تربطها بالأردن أوطد العلاقات.. ولا نعلم ماهيّة "الاهتمام" بشؤون "المغتربين" الذي يتحدّث حوله الرئيس !!
أمّا حديثه "الذرّي" الذي تجاهل خلاله النسور كافّة الأبحاث والدراسات المتعلّقة بمشروع "المفاعل النووي"، فعكس المدى الذي قرّرت السلطة بلوغه في تنمية القروض والمغامرة بأرواح المواطنين من أجل إنشاء هذا المشروع، رغم وجود العديد من البدائل، فالرئيس لا يمانع ما يترتّب عن المضي بهذا المشروع من مخاطر ، ولا يمانع تحميل الأردن المزيد من القروض والضغوط الماليّة، لكنّه يعتبر أن دعم خبز المواطن من شأنه ان يتسبّب بكارثة اقتصاديّة !!
"الأردن انموذج يحتذى به".. عبارة تلخّص موقف النسور من الأزمة المركّبة التي تعصف بالبلاد، ولم يبق لإتمام هذا النموذج -وفق رؤية الرئيس- سوى رفع الأسعار مجدّدا.. وعندها سيكون بالإمكان تشكيل حكومات برلمانيّة تتصدّي لكافّة المخاطر الإقليميّة وتعمل على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني على أرضه وحلّ الأزمة السوريّة وتوزيع أكاليل الغار على الطريق الممتد من الدوّار الرابع إلى وزارة الخارجيّة.. ترى هل من الممكن أن يكون النسور نفسه مقتنعاً بهذه الرواية الوزاريّة ؟!!