على أي الجانبين سنميل...؟
لا يملك الاردن في هذه المرحلة «ترف» الفرجة او الانتظار او الرهان على الزمن، فالمنطقة من حوله تشتعل سياسيا، وخرائط النفوذ تتغير، وانفجار التاريخ بكل ما القى من نفايات وحروب سيفضي بالضرورة الى انفجار الجغرافيا، وبالتالي فان خياراتنا التي كانت ممكنة فيما مضى اصبحت اليوم محدودة، او ان شئت هى مجرد اضطرارات، وسوى الروم خلفنا دواعش تنتسب للسنة احيانا وللشيعة احيانا اخرى، وخلفنا يمين صهيوني متطرف، وصراع مريب داخل الاسلام وعليه، لدرجة اصبحنا لا نعرف من هو الصديق من العدو، فعلى اي الجانبين يا ترى سنميل..؟
ان نذهب الى بناء علاقات «دافئة» مع العراق، وربما لاحقا مع سوريا، امر مطلوب بالطبع، فهذا هو عمقنا العربي، لكن ما الذي يمنع ان نتقارب (ولو اقتصاديا وسياسيا بدرجة اقل ) مع الايرانيين،لم لا، هذا لا يعني ابدا اننا تخلينا عن عمقنا العربي، ولا اننا عاتبون على اشقاء، كما لا يعني اننا سنفتح للايرانيين ابوابنا دون حساب لهواجسنا ومصالحنا، ولا ان نرضخ للنفوذ الايراني الذي تمدد في بعض العواصم لاسباب واعتبارات معروفة، لا تنطبق علينا.
لماذا لا نفكر ايضا ان نذهب الى انقرة بشكل اكثر وضوحا ..؟ صحيح ان علاقتنا مع الاتراك لم تتعرض لما تعرضت له علاقتنا مع طهران من قطيعة وانجماد، لكن الصحيح ايضا انها تحتاج الى حيوية جديدة تعيد اليها ما يلزم من سخونة، وينتزع ما دخل عليها من «تشويش»،الا يبدو ان ثمة تحولات في الافق تشير الى استدارات في مواقف بعض الاطراف العربية المهمة في المنطقة سواء نحو اسرائيل اونحو ملفات الصراع الاخرى، مما يجعل من تركيا طرفا في الحلول الممكنة.
مصلحة الاردن في هذه المرحلة تتطلب ان ينأى بنفسه عن الاستقطابات والتحالفات، كما تتطلب ان يبني نوعا من التوازن السياسي الذي يؤهله للقيام بدور يضمن له الحضور والتدخل الايجابي دون التورط في ملفات معقدة تستنزف طاقاته وتضر بمصالحه، وهذا التوازن يحتاج الى شبكة علاقات عابرة للانحيازات، وخطوات سياسية مدركة للاخطار، وقائمة على اساس المصالح المشتركة، وعدم التدخل في شؤون الاخرين.
في موازاة ذلك، يجب ان لا تظل عيوننا مفتوحة على الخارج فقط، وانما لا بد من النظر الى الداخل ايضا، فالحرب على التطرف والفساد والغلاء والبطالة ومواجهة توقف عجلة السياسة وما افرزه ذلك من احتقانات واستقطابات، هي حربنا هنا في الداخل، ومواجهتها لن تنجح بالحلول العاجلة والمسلوقة او منطق الفزعات، وانما تحتاج الى حلول سياسية واقتصادية وفكرية، واذا كان الاصلاح فيما مضى خيارا متاحا تباطأنا فيه فانه اصبح اليوم اضطرارا واجبا، وفي غياب «التوافق» على المستقبل وما تحتاجه جبهتنا الداخلية من «مصدات « للحماية والتماسك، فاننا سنواجه اسئلة معقدة، قد لا نستطيع الاجابة عنها اذا ما داهمتنا الازمات او فاجأتنا الاحداث، كما ان سلامة خياراتنا على صعيد الخارج لن تضمن لنا في غياب «قوة الداخل» تجاوز الاخطار التي تحدق بنا من كل اتجاه.
السؤال بالنسبة للاردن اليوم، سؤال المصلحة والمستقبل معا، لا يمكن اختزاله (كما تتصور بعض الاطراف) في الاختيار بين ايهما اخطر : اسرائيل ام ايران، وانما يتعلق بوجودنا ودورنا والاجابة عنه يجب ان تتجاوز منطق العقلية التي كنا نفكر بها في المرحلة السابقة، فقد اثبتت السنوات الماضية ان الاعتماد على الاصدقاء في الدفاع عن الاوطان مجرد وهم، وان الدول هي التي تحدد مصيرها وفق قدرتها على كسب شعوبها، ونجاحها في تحديد خياراتها، ومدى رغبتها في الاستفادة من اخطاء الاخرين، واعتقد اننا امام مفترق تاريخي يفرض علينا ان نحسب خطواتنا بدقة، ونحدد اتجاهاتنا بحكمة، وقبل ذلك ان نعمل ما بوسعنا لتبقى جبهتنا الداخلية يقظة وموحدة.