بلدنا وحيدًا في مواجهة «العاديات»..
آسف اذا قلت : ان مصطلح»الاشقاء» سقط ربما الى غير رجعة من قواميسنا العربية، فحيثما تقلب النظر (مع استثناءات قليلة) لا تجد اي صوت او صدى لهذا الاحساس الذي كان يراود الشعوب العربية والحكومات ايضا وهي ترتب علاقاتها فيما بينها، ربما اصبحت الصيغة الحاضرة هي» الصداقة»، فنحن في عصر «الاصدقاء» فقط، وعنوانه المقايضة وتبادل المصالح، اما دليله فهو «اعتمد على نفسك « وربما «اقلع اشواكك بيديك «، هذا -بالطبع - اذا احسنا النوايا وتجاوزنا ما يحاك هنا وهناك من الاعيب ما كانت تخطر على بال احد.
يبدو اننا لم نستطع ان نهضم او حتى ان نبتلع كل هذه النوازل التي فاجأتنا (هل فاجأتنا حقا..؟)، فإلى وقت قريب كنا نراهن على «العروبة « والعمق العربي، كنا نتوقع ان تمد لنا العروبة يديها كما كنا نمد اليها ايدينا، لكن لا بد الان ان نصارح انفسنا بالحقيقة، نحن الان نكاد نكون لوحدنا امام معركة الدفاع عن الوجود وليس الدفاع عن الحدود، صحيح كنا فيما مضى نتصارع ونشتبك حول ملفات الاصلاح السياسي والوضع الاقتصادي الصعب، والتعليم الذي تراجع والعنف الذي تصاعد، وربما حول اسئلة صعبة كسؤال الهوية وسؤال الكراهية وسؤال الوئام الوطني، لكن كل ذلك اصبح مجرد عناوين صغيرة امام عنوان كبير يتعلق بالمصير والمستقبل، اقصد وجودنا كدولة ومجتمع، ومصيرنا كأردنيين، ومستقبلنا كوطن ضحى اجدادنا واباؤنا بأرواحهم لكي يبقى عزيزا موحدا، في وجه كل العاديات.
اذا اتفقنا على اننا امام عنوان خطير يستوجب «توافقنا « واجتماعنا على مواجهة القادم وتحدياته غير المسبوقة،ثم الاعتماد على النفس بدون مواربة، فاعتقد ان حاجتنا اليوم الى فقه المصارحة يتقدم على كل ما نفكر به من اولويات اخرى حتى اولوية الاصلاح نفسها، ذلك انه لا يمكن ان نقنع الناس ونطمئنهم على حاضرهم ومستقبلهم، وننتزع ما يشعرون به من قلق وارتباك، ما لم نتعامل معهم بمنطق «الكلام المباشر» بما يقتضيه من صدقية وصراحة، وبما يبعثه من رسائل واضحة يستطيع الناس ان يستقبلوها بوضوح لردم ما حدث من فجوة او فهم ما جرى من مستجدات او لطي صفحة الماضي بما اعتراها من هنات وخلل.
لا يوجد لدي اي اجابة على ما يمكن ان نفعله او نتصارح حوله لرد العاديات التي ننتظرها ، لكنني سأبدأ من تشخيص المشهد فقط، لاحظ معي ما يحدث في بلدنا، ستصاب بالدهشة حين تطالع هذه الهجمة غير المسبوقة على كل شيء، حتى ان احدا لم يسلم من «الضرب» الذي طال الجميع، لا استثني احدا، الحكومات تضرب في كل اتجاه، والنخب تتصارع على كعكة لم يتبق منها غير الفتات، اما الناس فيمارسون الشكوى واللطم وكأنهم في مأتم، لماذا حدث ذلك، ولماذا فقدنا الثقة ببعضنا، لماذا تحول خطابنا الى خطاب خناجر، ولماذا اسرفنا في نعي ذاتنا، وكأننا استسلمنا لمصيرنا المحتوم.
لاحظ ايضا انني اتحدث عن دولة تستعد للاحتفال بمرور 100 عام على تأسيسها، وعن مجتمع افرز في عقود مضت افضل ما لديه من كفاءات، وعن مؤسسات كانت تحظى باحترام الجميع، وعن ادارة عامة كانت في منتهى الانضباط، وعن مناخات سياسية موزونة ومزاج عام معتدل.
نبحث عن هيبة الدولة، ونتزاحم لاستعادة القانون، ونحاول جاهدين ان نرد على اسئلة الناس ومعاناتهم، فماذا كانت النتيجة..؟ لا بد ان الجميع يعرفها، البعض يعتقد ان كل ما يجرى مقصود وانه ليس مجرد صدفة، والبعض ادركه اليأس واصبح عاجزا يتفرج على المشهد، اما الاخرون ممن يضعون ايديهم على قلوبهم خوفا على البلد فقد اكتفوا بالصراخ او الدعاء على نية الفرج.
بدل أن نلوم بعضنا، يجب ان ندقق فيما أصابنا من ارتباك، وما انتهينا اليه من تيه وحيرة، ولن نتمكن من ذلك إلا اذا تجاوزنا حالة «السيولة» والانتظار والاستعصاء، وفتحنا أبوابنا للحوار، وقنواتنا السياسية لمرور «المياه» الراكدة، وعقولنا للتفكير في الحال والمصير، وقلوبنا لطرد ما تراكم داخلها من أحقاد وهواجس وسوء فهم.