في رثاء السلطة التشريعيّة.. صاخبا كان الخطاب !!
كتب تامر خرمه
الخطابات "الثوريّة،" وشعارات الهويّة والقضيّة والخبز والحريّة، والزئير الصاخب عبر "الميكروفونات"، جعلت المجلس النيابي يبدو لوهلة (او لنقل لغفلة) وكأنّه مركب "الغرانما" الذي حمل الثوار لتحطيم قلاع "سانتا كلارا" وتجاوز الحقبة البائدة، ولكن في النهاية -وكما كان متوقعا- حصل د. عبدالله النسور على عدد الأصوات التي أرادتها له البطريركية الأمنية السياسية دون زيادة أو نقصان !!
المجلس النيابي عبّر -نظريّا- عن موقف الشارع الرافض لتواجد القوّات العسكريّة الأمريكيّة على الأراضي الأردنيّة ولإقحام الأردن بتدخّل عسكري في سوريّة، كما عبّر عن القلق الشعبي المتّصل بمسألة الهويّة ومخاطر مشروع الكونفدراليّة، بالإضافة إلى البعد الاقتصادي الذي ارتكز إليه النواب في خطاباتهم الثورجيّة.. "برافو" يا أصحاب السعادة، ولكن بعد انتهاء موجة التصفيق وإسدال الستار على هذا العرض المسرحي بات المشهد المعتاد اكثر طرافة، وارتسمت الوداعة على ملامح البرلمان الذي اعيد توزيع الأوراق بين اعضائه بما يضمن حصول الرئيس المعاد تكليفه على ثقة 83 نائبا بالتمام والكمال.
وفي الوقت الذي تفاجأ فيه البعض من منح النواب "الثورجيين" الثقة لحكومة النسور، تفاجأ البعض الآخر بمواقف نواب كان من المتوقّع ألا يتردّد احدهم في منح الثقة، إلا أنّهم مهَروا الحبكة الدراميّة لهذا "العرس الديمقراطي" بكلمة "حجب".. غير أن أبرز مشاهد "حلقة الثقة" تمثّل بتفسّخ "الكتل" وفشلها في الوصول إلى إجماع حول "الثقة" أو "الحجب"، ما أدى إلى وأد هذا الجنين المشوّه الذي اتفق على تسميته ب "الكتل النيابيّة".
منذ بداية "المشاورات" التي اعادت النسور إلى الدوار الرابع قبل البدء ب"مشاورات" اخرى استندت إلى مناورات التوزير، لم يكن من المتوقّع أن يقدم المجلس النيابي على حجب الثقة عن هذه الحكومة التي وصفها بانّها "تختبئ خلف الملك"، إلاّ ان المبالغة في الاستعراض تحت القبّة، وفي هذه المرحلة الحرجة التي تشهدها البلاد، جلعت من مسألة منح الثقة بمثابة المسمار الأخير في نعش السلطة التشريعيّة.. وباختصار، فإن مركز صنع القرار أسقط آخر ما تبقى من معالم "البرلمان".
المضحك المبكي أن الدولة تخلّت عن آخر فرصة لإنجاح مقاربتها -المرفوضة شعبيّاً- ورفضت منح شعار "الطريق إلى الحكومة البرلمانيّة" أدنى متطلّبات الشعبويّة، بل أصدرت حكم الإعدام على التجربة التي وصفتها ذات يوم بلقب "البرلمان"، وراهنت عليها في تقدم "النموذج الأردني" الأمثل لجلب ما أمكن من المساعدات سواء من "اليانكيز" أو من القارّة العجوز !
ولأن الأمل يلحّ أحياناً على الأردنيّين، قفزت إلى المخيّلة -ذات غفلة منطق- صورة لمجلس نيابي يحجب الثقة عن حكومة سقطت شرعيّتها الشعبيّة، ولأن الصورة كانت خياليّة، تصوّرنا كيف سيكون حال صانع القرار وهو يخبر الشعب بأن التجربة التي رفضتها المعارضة السياسيّة والشعبيّة "نجحت"، وأن الرؤية الرسميّة كانت "على حق"، وها هو المجلس "الي مش عاجبكم" يحجب الثقة عن حكومة تجويع الناس ويستعيد هيبة السلطة التشريعيّة !!
وعودة إلى الواقع، يصرّ النظام على تكسير وتدمير كافّة السلطات، بذريعة "الموت القادم من الشمال"، ويبلغ رسالته للأردنيين عبر إعادة تدوير رئيس الحكومة التي فجّرت بقراراتها غضبة شعبيّة لم تشهد مثلها البلاد منذ هبّة نيسان في العام 1989، التي كانت نتيجتها تجاوز حقبة الأحكام العرفيّة إلى التجربة الديمقراطيّة.
أمّا الرئيس، الذي أعادت السلطة تدويره بعد تسليحه بالفريق الاقتصادي القادر على سحق قوت الشعب، فقد أعلن -أثناء قراءة بيان "الردّ"- أن حكومته ستلجأ إلى تقويض رغيف الخبز بالبطاقة الذكيّة.. وكان يوزّع المناصب والتعيينات على "نوّاب الثقة" في ذات الوقت الذي كان يرفع فيه شعار: "لا توريث بعد اليوم ولا تعيينات مسقطة من أية جهة ولأي سبب كان" !
وفي الوقت الذي كان يقول فيه -قبيل التصويت على الثقة- إن وزارة الخارجيّة تبذل جهودها لمتابعة قضايا المعتقلين الأردنيّين في الخارج، كان الأسرى الأردنيّون يستعدون لخوض الإضراب عن الطعام في السجون الصهيونيّة بسبب تخلّي الحكومات الأردنيّة المتعاقبة عن مسؤوليّاتها تجاههم، وكان أهالي المعتقلين الأردنيّين في السجون العربيّة يحاولون عبثاً العثور على أيّة مساحة تكفي لبعض الأمل.
وبعد تباهي النسور بأن حكومته تلتزم بحماية الحريّات، وفور انتهاء التصويت وحصد "الثقة"، انهال رجال الأمن بالضرب المبرح على أحد الصحافيّين لأنّه علّق على نتائج التصويت، معبّراً عن رأيه وموقفه الشخصي الذي أوصله إلى المستشفى !!
ترى.. كيف سيكون الموقف بعد رحيل حكومة النسور في بضعة شهور، خاصّة وأنّه تعهّد بالتزامات تتجاوز الدوّار الرابع بآلاف الأميال، سواء فيما يتعلّق بالملف الاقتصادي -كالضّريبة التصاعديّة التي وعد بالشروع في إعداد قانونها- أو فيما يتّصل بتجنيب الأردن التورّط في نزاع عسكريّ على الحدود الشماليّة، في ظلّ تواجد القوّات الامريكيّة على الأراضي الأردنيّة وطائرات التجسّس "الاسرائيليّة" تحلّق في الاجواء ؟!