jo24_banner
jo24_banner

كيف تفكر الدولة الأردنية

د. حسن البراري
جو 24 :


في تحليل السياسة الأردنية هناك مدرستان واحدة تقول أن الدولة الأردنية لا تمتلك القدرة على أخذ زمام المبادرة لظروف موضوعية، فالنخب السياسية التي وصلت إلى مواقع صنع القرار جاءت وفق سياق اعداد الأردن لقبول تسوية سياسية مع إسرائيل ستكون بالضرورة على حساب هوية البلد ومستقبل النظام السياسي. فالنخب الحاكمة تؤمن بذات البرنامج العابر لكل الحكومات وتقوم بتنفيذه، وهو برنامج أضعف مؤسسات الدولة وهمّش الأردنيين وأفقرهم ونتج عنه وضع اقتصادي كارثي. ويرى أنصار هذه المدرسة أن الوضع الحالي جاء نتاج سياسات واعية هدفت إلى إيصال الأردن إلى هذه النقطة بهدف تطويعه ودفعه للامتثال لمشاريع إقليمية.

أما المدرسة الثانية فتقول أن الأردن وصل إلى هذه النقطة بسبب النظام الاقتصادي السياسي الريعي، لذلك هناك حاجة لنقل الأردن إلى مرحلة دولة انتاج. أصحاب هذه المدرسة تبنوا مشاريع الخصخصة وترشيق الحكومات وتشجيع القطاع الخاص في محاولة لتقليص عدد العاملين في القطاع العام. الليبراليون الجدد، أو هكذا يسمون، فرضوا البرنامج الذي أوجد فجوة ثقة بين المواطن والمؤسسات وفككوا عرى العلاقة التقليدية بين الدولة والمواطن في حين اخفقوا في تحقيق شروط التنمية المستدامة. وبالفعل اشبعونا تنظيرا مع أن مقارباتهم الاقتصادية باءت بفشل كبير.

وإقليميا يرى عقل الدولة الأردنية أن الأردن ليس من دون أوراق، فاستقراره بات ضرورة إقليمية، ويعوّل هذا العقل على الموقع الجيوسياسي للأردن الذي منحها أهمية أكبر بكثير من امكانياتها، لكن هناك اغفال لحقيقة أن الموقع الجيوسياسي يمكن ألا يكون فقط ذخرا وإنما أيضا عبئا.

أين هو واقع الأردن من هاتين المدرستين؟ لا يتسند فهمي لكيفية تفكير الدولة الأردنية إلى تنظير سياسي بقدر ما يستند إلى نقاشات معمقة مع اللاعبين الرئيسيين في الدولة، فخلال لقاءاتي العديدة مع هؤلاء اللاعبين تكوّن لدي فكرة عن الطريقة التي تفكر بها الدولة الأردنية، والحق أن هناك نسقاً متماسكاً لكنه أيضا ليس من دون نقد وهو ما سأتعرض له أيضا في هذه العجالة. ما أردت أن أقوله أن هناك عقلاً للدولة يرى أن هناك مصلحة وطنية أردنية عليا وهو لا يعرّف المصلحة بشكل ضيق وإنما بشكل مرن، وهنا تميز الدولة الأردنية بين الثوابت في مواقفها وبين إدارة هذه المواقف في علاقاتها الخارجية بحيث يمكن لها أن تدفع الأذى عن الأردن.

سأبتعد عن المدرسة الأولى وأركز على الثانية المتعلقة بوجود عقل في الدولة. يقول هذا العقل أن الأردن قادر على الدفاع عن مصالحة من خلال بناء موقف عربي إسلامي موحد لدعم موقف الأردن في القضية الفلسطينية، فهناك أهمية استراتيجية للأردن لا يمكن لأي لاعب جاد في المنطقة أن يتجاهلها، فالأردن ليس جزءا من صفقة القرن وغير مطلع على أي تفاصيل سياسية شأنه في ذلك شأن العديد من الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة (مع أني أجزم أن إسرائيل تعرف تفاصيل الصفقة). ويصر أصحاب هذه المدرسة أن الأردن يمتلك القدرة على القول لا بوجه أمريكا أو أي طرف آخر يحاول فرض أي حل لا يتناسب مع تعريف الأردن لمصلحته الوطنية.

من جانب آخر، يعترف هذا العقل بأن السياسة الأحادية لإسرائيل قوّضت أسس حل الدولتين، وهذا الامر وإن كان مقلقا إلا أنهم يرونه أيضا مصدر تهديد واضح لإسرائيل، فالدولة الأردنية تستخدم مقولة فشل حل الدولتين سيفضي إلى حل الدولة الواحدة (ثنائية القومية وديمقراطية أو ثنائية القومية وعنصرية) كوسيلة ضغط على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. فهذه المدرسة ترى بالقنبلة الديمغرافية الموقوتة غرب النهر كأداة ضغط على اليمين الإسرائيلي الذي يرفض فكرة الانسحاب بل يسعى إلى قضم وضم أكبر جزء ممكن من أراض الضفة الغربية. طبعا لا تبرر لنا هذه المدرسة سبب فشل الضغط على إسرائيل التي تفرض أمر واقعا دون أي كلفة في العلاقة مع الأردن أو العرب.

هناك ثلاثة مشاكل في الطريقة التي تفكر بها الدولة الأردنية:

أولا، افتراض أن الموقع الجيوسياسي يشكل ذخرا للأردن لم يعد صحيحا، فوجود الأردن كمنطقة عازلة بين مصلحتين امريكيتين (النفط وإسرائيل) لم يعد أمرا كافيا لدعمه، فهناك اتصالات مباشرة بين دول خليجية وإسرائيل، ولم تعد هناك حاجة للأردن ليقوم بدور الوسيط. وعلاوة على ذلك، قامت دول الخليج بشراء أفضل منظومات السلاح في العالم ووقعت اتفاقيات أمنية وعسكرية مع دول كبرى، وعليه لم تعد هناك حاجة خليجية لدور عسكري أو أمني أردني، كما أن الأردن لم يعد بذات الأهمية في نظرية الأمن الإسرائيلي وهذا أمر ينبغي التوقف عنده وعند التغير في مكانة الأردن في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي.

وهذا يقودنا للنقطة الثانية المتعلقة بالدبلوماسية الأردنية التي تحاول بناء موقف عربي إسلامي موحد. يبدو لي أن عقل الدولة مفصول عن الواقع، فالدول التي كانت تساند الأردن أصبحت تقيم علاقات مع إسرائيل وتحول النظام العربي إلى نظام هش وتنافسي ومخترق. كما أن كل المؤشرات تدل على اتصالات على أعلى المستويات بين دول عربية ومسلمة من جانب وإسرائيل من جانب آخر، فالجبهة الشرقية دفنت مع الانكشاف الاستراتيجي الكبير للأردن والفلسطينيين، كما أن الاعتماد على التصريحات اللفظية التي تأتي من السعودية لا يجب أن تؤخذ على محمل الجد إذ ينبغي الانتباه إلى تغير مصادر التهديد لدولة مثل السعودية ومحاولاتها خلق محور جديد يضم إسرائيل للتصدي لإيران.

ثالثا، هناك قراءة خاطئة عند مختلف مستويات صنع القرار في الدولة الأردنية والمرتبطة بخيارات إسرائيل في حال فشل حل الدولتين. يرى المسؤولون في الأردن أن فشل حل الدولتين سيفضي إلى حل الدولة الواحدة. جميل، وربما سيكون ذلك أفضل للفلسطينيين لأن مفاعيل الديمغرافيا والديمقراطية ستكون في صالحهم. وإذا ما أرادت إسرائيل الحفاظ على يهوديتها فإنها ستتحول إلى دولة فصل عنصري ابرتهايد. مشكلة عقل الدولة الأردنية بأنه لا يفهم إسرائيل، فالأخيرة بلورت خيارات عدة لتجنب خيار الدولة الواحدة من خلال إلزام الأردن لعب دور في الضفة الغربية أو تنفيذ ترانسفير سياسي للفلسطينيين من خلال علاقة كونفدرالية أو غيرها.

الملك عبدالله أكثر ذكاءً من عقل الدولة لأنه يعرف جيدا التحول في التفكير الاستراتيجي لحلفاء الأردن، وقد أشار إلى ذلك بشكل غير مباشر عندما تحدث عن الضغوطات التي تمارس ضد الأردن، فهذه الضغوطات لا تأتي من الصين ولا من كوريا الشمالية وإنما من "حلفاء" الأردن. فاستباق الملك لهذه الضغوطات من خلال مكاشفة الشعب بالحقيقة ينبغي أن يتبعه استبدال للنخب الحاكمة لأنها غير قادرة على التفكير خارج مصفوفة الخيارات التي وضعها "حلفاء" الأردن لنا. وهذا بدوره يكشف لنا عن انطباع بأن هناك من بين النخب من لا يعمل وفقا للمصلحة الأردنية وإنما وفقا لمواقفهم الشخصية وارتباطاتهم مع هذه العاصمة أو تلك.

اللافت في كلام المسؤولين هو أنهم لا يفكرون مجرد التفكير في تنويع التحالفات الأردنية، وحديث المسؤولين عن وجود خطط بديلة وسيناريوهات كان يمكن أن يبعث على الراحة لو كشفوا لنا هذه الخطط. فبعد أن ذاب الثلج وبعد أن زالت الغمامة يتبين لنا أن الحلفاء التقليديين (أمريكا والسعودية) لا يتفقون معنا في نهاية اللعبة في القضية الفلسطينية. صحيح أنه ينبغي أن نميز بين الثوابت وإدارة هذه الثوابت إلا أنه من غير المعقول ألا نتأثر بالضغوطات إلا إذ وجد خيارات في السياسة الخارجية وهو أمر لم يتسنى لنا التأكد من وجوده.

يتم اتهام أصحاب المدرسة الأولى بأنهم يؤمنون بنظرية المؤامرة، واعتقد أنهم يفهمون سياق الأحداث أفضل بكثير من أصحاب المدرسة الثانية، فلا يمكن الحديث جديا عن وجود نخب حاكمة منذ أكثر من عقدين يمكن لها الوقوف في وجه المخططات الإسرائيلية وهو أمر لم يعد بحاجة إلا اثبات. بمعنى أن عقل الدولة الأردنية عاجز عن التفكير خارج الصندوق وخارج سطوة التحالفات التقليدية.
 
تابعو الأردن 24 على google news