آسيا جبار: الكتابة أرجعتني إلى صرخات النساء الثائرات في صمت.. إلى أصلي الوحيد
انبثق ولعُها بالأدب منذ الطفولة الأولى. تعلمت الإغريقية واللاتينية، ودرست في الجزائر، ثم التحقت بقسم الآداب العليا في باريس العام 1954. ثم تابعت دراستها في المدرسة العليا للأساتذة في مدينة "سيفر" لكن تم إيقافها عن الدراسة بسبب مشاركتها في إضراب الطلبة الجزائريين إبان الثورة. ومن تونس عملت لحساب جريدة المجاهد الجزائرية وحصلت على الدراسات العليا في التاريخ. وفي العام 1959 أصبحت أستاذا مساعدا بجامعة الرباط، ثم بالجزائر العاصمة ثم بالمركز الثقافي الجزائري بباريس.
إنها الكاتبة آسيا جبار، التي انتخبت عضواً في الأكاديمية الفرنسية، منذ عام 2005، والتي ولدت في مدينة شرشال بالجزائر، هي اليوم، وبلا جدال، أكبر روائية في المغرب العربي. "لا شك أن آسيا جبار أهمّ امرأة كاتبة في المغرب العربي". هكذا قال عنها صديقها الكاتب طاهر جعوت. أعمالها الأدبية الأصلية التي ترجمت إلى 21 لغة، أعمالٌ متغيّرة الأشكال، وتُدرَّس في العالم أجمع. اُنْتُخِبَتْ آسيا جبار في الأكاديمية الفرنسية عام 2005، وبذلك فهي أوّل امرأة إفريقية تحتل كرسياً تحت قبة الأكاديمية الفرنسية للآداب. وهي تُقَسِّمُ وقتَها اليوم ما بين باريس والولايات المتحدة الأميركية، حيث تُدَرِّسُ في قسم الدراسات الفرنسية في جامعة نيويورك. مؤخراً أصدرت آسيا جبار سيرَتها الذاتية "ولا في أيّ مكانٍ من بيتِ والدي"، (الصادرة عن دار "فايار" للنشر)، وهي الرواية التي، كما تقول الكاتبة نفسها، تعبّر عن الحاجة الماسة لـ "المعرفة الذاتية".
كُلِّلَتْ أعمالُها بالعديد من الامتيازات: جائزة النقد العالمية في البندقية 1979، وجائزة موريس ميتيرلينك، في بلجيكا عام 1995، وجائزة الأدب العالمية "نوستاد برايز" في الولايات المتحدة الأميركية،عام 1996، وجائزة "بالمي، في إيطاليا، 1998، وجائزة "مرغريت يورسينار"، عام 1999، وجائزة السلام 2000. وفي كانون الثاني 2006 حازت آسيا جبار على الجائزة العالمية "غرينزان كافور"، في "تورانتو"، المخصصة للكُتّاب الإيطاليين، والأجانب ممّن يكرسون حياتهم للأدب.
"من بعيد جئتُ، وإلى بعيدٍ سوف أمضي..."، ذلك هو شعار الجزائرية آسيا جبار التي أبرزت في بداية روايتها الجديدة "ولا في أيّ مكانٍ من بيتِ والدي" هذه الكلمات التي استعارتها من الشاعرة البريطانية، "كاتلين راين" Katheleen Raine.
شعار منحوتٌ خصيصاً على مقاس سيدة الأدب المغاربي الكبيرة، التي كان مسارها مساراً غير عادي، قادها من قرى جبال الأطلس الجزائري، إلى الأكاديمية الفرنسية الراسية عند ضفاف نهر السين، في باريس. فمن حريم مغاربية إلى مناضلة في طليعة الكفاح من أجل قضايا المرأة وحقوقها، ومن الظلامية الاستعمارية إلى إشعاع ما بعد الاحتلال. هذا المسار مسارٌ استثنائي للغاية، لأن الكاتبة لا تنكر شيئاً، ولا تخفي شيئاً. لا أصولها، ولا فشلها ولا خيباتها. بل على العكس، إنها تغرف باستمرار من ماضيها، ومن ماضي شعبها، ولا سيما من ماضي نساء طبقتها الاجتماعية – الأمهات والجدات البربريات (نسبة إلى طائفة البربر) اللواتي تحسُّ آسيا جبار قُرْبَها منهنّ -، وتغرف من القدرة على المضي قُدُماً أكثر إلى الأمام، في كفاحها ضد المجتمع الأبوي الذكوري، والقروي البسيط المهيمن، ولكنها تغرف أيضاً من مادة كتاباتها المعقدة الهائلة، إذ يحلو لها كثيراً أن تقول في هذا الشأن "الكتابةُ أرجعتني إلى صرخات النساء الثائرات في صمتٍ، إلى أصلي الوحيد. الكتابةُ لا تقتلُ الصوتَ بل توقظه، وتوقظ على الخصوص أخواتٍ عديدات تائهات".
أنتجت آسيا جبار، الروائية والقاصة، والصحفية، والشاعرة، والمسرحية، والسينمائية، عشرين كتاباً متعددة المواضيع والألوان. هذه الأعمال المتنوعة تشدّك وتبهرك بطابعها النضالي متعدد المواضيع، وبكتابتها الشاعرية المميزة التي تتدفّق قطرات تلو القطرات، وذكريات تلو الذكريات، بدلا من التأكيدات المطلبية الصارخة. وقد كانت المدرسةُ الفرنسية، بالتأكيد، واكتشاف آسيا جبار للأدب الفرنسي بالذات، هما مصدر هذه الرغبة القوية في الكتابة. والحال أن هذه المرأة، وهي من أم بربرية، وأب مُدرّس، تدين لهذا الأخير، بتسجيلها في حضانة القرية، وهي المدرسة التي لم تحظ بناتُ أعمامها، وأخوالها، بالدخول إليها.
وما لا شك فيه أن هذا الوعي هو الذي صنع منها تلميذة ناجحة ومتفوقة. فكانت بالفعل واحدة من بنات جيلها المتفوقات في الدراسة، فحصلت على شهادة التعليم الابتدائي، وكانت الطالبة المسلمة الوحيدة في ثانوية مدينة البُليدة، في دراسة الإغريقية واللاتينية. أما اكتشافها للأدب الفرنسي فهو يعود إلى تلك الفترة أيضاً. فمنذ ذلك الوقت صارت القراءةُ نشوتَها الأساسية. وسرعان ما جعلت من هذه اللغة (اللغة الفرنسية) "ملجأها اللغوي" الوحيد، لأنه، كما تقول هي نفسها في أحد نصوص سيرتها الذاتية: "هذه الأصوات التي تحاصرني" (الصادرة عن ألين ميشيل 1999). "القراءة والكتابة بهذه اللغة، في الخمسينيات، كانتا أيضاً بالنسبة للنساء الجزائريات، طريقة من طرق التحرر، ومن سبل الحصول على المعرفة، ومن الخروج عن الدائرة الأنثوية الحصرية". لكن، في الوقت نفسه، كان اختبار الكاتبةِ للكتابة بلغة المستعمر، مؤلماً جداً. لكنّ آسيا جبار عرفت كيف تحوّل مأزقها هذا إلى مشروع كتابة يمكننا اختصارها كالتالي: "أن تضع آسيا جبار مجموعة من الأصوات والمواضيع المتعددة، من خلال النص، كأسلوب لمقاومة اللغة الأحادية المصطنعة التي تخنق الجزائر.
فباعتراضها ومعارضتها لعملية التعريب التي فُرضت على الجزائر فرضاً، منذ استقلالها عام 1962، على حساب الفرنسية، وعلى حساب اللغة البربرية، وحتى اللهجة العامية أيضاً، جعلت من موت أو اختفاء اللهجات، واحداً من المواضيع الرئيسية لرواياتها، كما تشهد على ذلك عناوين بعض مؤلفاتها، "وهران، لغة ميتة" (الصادرة عن دار "آكت سود" 1997)، أو "اختفاء اللغة الفرنسية" (الصادرة عن دار ألين ميشيل، 2003).
نشرت آسيا جبار رواياتها الأولى قبل استقلال الجزائر سنة 1962. كان عمرها آنذاك لا يزيد على عشرين عاماً. وكانت عناوين كتبها تدور حول الحرب، والعائلات المفككة، وعن تصاعد ظاهرة الفردانية في الوسط البرجوازي. والحال أن هذه الظاهرة كانت عنوان روايتها الأولى "الظمأ" الصادرة عن دار "جويليار" العام 1957. هذه الرواية التي تجسد تحرّر فتاة برجوازية جزائرية من قيود التقاليد والمحظورات الاجتماعية، واكتشافها لخفايا جسدها، وما يمنحه من متعة شهوانية، هي التي صنعت شهرة الكاتبة آسيا جبار، التي وُصّفت في تلك الأيام بـ "فرنسواز ساغان المسلمة".
فاطمة الزهراء إيمالايين، هي هذه التي اشتهرت بالاسم المستعار آسيا جبار، بسبب خشية أبويها من أن تصبح ابنتهما شبيهة بأبطال رواياتها المعروفين بفضائحهم وتحرّرهم. وبعد أن اجتازت مراحل متتالية في الرواية السيكولوجية، والرواية الملتزمة، دخلت آسيا جبار، في الثمانينيات من القرن العشرين، بمجموعتها القصصية الشهيرة "نساء الجزائر العاصمة داخل شققهن" (الصادرة عن دار لي فام)، وروايتها "الحب" والفانتازيا (1985)، قلت دخلت آسيا جبار، حقاً، في صلب موضوعها المفضل، ألا وهو الوضع الأنثوي في العالم العربي الذي نستشف ما يقع فيه هذا العالم من ضغوط ومحظورات وتمزّقات، من خلال الكلمات، ومن خلال الذاكرة الشخصية والتاريخية على السواء. وتتساءل جبار أيضاً حول قضايا الأصولية، وكذلك الدكتاتورية التي تؤكد في شأنها أنها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بـ "الاستحواذ العُصابي"، وباللغة الوحيدة.
هذا التحول العميق في نصّ آسيا جبار، ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، ترافقه ثورة في الكتابة التي تتجلى أساساً عبر انفجار الأجناس، والامتزاج الخصب ما بين السيرة الذاتية، والخيال، والأسطورة، والتي صارت على مرّ السنين السمات الرئيسة المميزة حقاً لهذا الخيال المتميز. "الغد"