عبقريّة الفوضى الإعلاميّة في نسف منظومة الاستبداد
كتب تامر خرمه
حالة التنوّع التي يتّسم بها المشهد الإعلامي المصري، في مرحلة ما بعد إسقاط مبارك، وصلت إلى أقصى درجات الصخب، لترسم لوحة فسيفسائيّة صارخة بكافّة التناقضات والآراء والمواقف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المتباينة.
وقد وصل الأمر ببعض وسائل الإعلام المصريّة إلى التخلّي تماما عن كافّة الضوابط المهنيّة، وطرح مختلف الآراء التي تتجاوز كونها مجرّد آراء إلى وسيلة تحريض ممنهج وتأليب متعمّد تتراشقه منابر مختلف القوى السياسيّة المتصارعة.
هذا التناقض والتراشق المتحرّر من كافّة الضوابط، والذي يحذّر كثيرون من خطورته، لا يمكن تجاهل دوره أيضاً في رفع الكلفة على النظام السياسي الحاكم، الذي يجد نفسه أمام هذا الواقع مضطراً للتفكير ألف مرّة قبل اتخاذ أيّة خطوة، او حتى الادلاء بأي تصريح إعلاميّ.
برنامج البرنامج، الذي يقدّمه الإعلامي المصري د. باسم يوسف على فضائية "السي بي سي"، على سبيل المثال، يحاكم كلّ ما يصدر عن الرئيس المصري محمد مرسي كلمة بكلمة، بل حرفاً بحرف، وعلى الرئيس إن أراد تجنّب النقد التفكير مليون مرّة قبل اختيار مفرداته، ورغم هذا فإنّه لا يملك فرصة النجاة من نقد يوسف اللاذع مهما بلغ من الحذر.
وباختصار، فإن ما يصفه البعض بفوضى الإعلام، يسهم بشكل أساسي في محاكمة السلطة وضبط إيقاع الحكم، حيث تمارس مختلف وسائل الإعلام في مصر دورها الرقابي بشكل حقيقي وفاعل، لا يملك أمامه أيّ مستبدّ إلا أن يتراجع ويبذل المزيد من الجهد لإرضاء الرأي العام.
وفي ظلّ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتزايد أعداد مستخدميها بشكل متسارع في مصر، بات انتقال المعلومة او الخبر لا يحتاج إلى وقت يذكر، كما أن تناول مختلف المواقف والتصريحات بأدوات النقد عبر هذه الوسائل أسهم في قدرة الإعلام على تكوين رأي عام تجاه مختلف القضايا بمجرّد طرحها.
ليس المقصود في هذه المساحة الدعوة إلى خلق حالة من الفوضى الإعلاميّة، بل هي مجرّد قراءة موضوعيّة لواقع الإعلام المصري، الذي لم يعد يسمح لأيّ مستبد بالتجبّر والتسلّط والاستحواذ على كافّة ركائز السلطة، وصحيح أن الدعاوى القضائيّة المرفوعة ضدّ وسائل الإعلام في عهد مرسي تفوق في عددها كافّة الدعاوى التي نظر فيها القضاء المصري منذ عصر الخديوي إلى عهد مبارك، ولكن أليس هذا هو المطلوب ؟ أن يكون القضاء هو المرجعيّة التي يلجأ إليها الفرقاء عوضاً عن الاستبداد والاعتقال وزنازن البوليس السرّي ؟؟
هذا جزء مما حقّقته الثورة المصريّة، فبصرف النظر عن معارضتك او تأييدك للجهة التي وصلت إلى السلطة بعد الإطاحة بحسني مبارك، فإنه سيكون من الصعب عليك إنكار التقدّم الذي حقّقته الثورة، تلك الثورة التي لم يكن إسقاط الرئيس السابق سوى أولى خطواتها.
هل كان الإعلام المستقلّ ضحيّة للثورة المصريّة ؟ الواقع يؤكد عكس ذلك، فوسائل الإعلام المختلفة، سواء التي شكّل بعضها أداة في يد النظام السابق أثناء الثورة، أو تلك التي كانت تلجأ إلى مواقع التواصل الاجتماعي للدفع بالثورة إلى أقصى غاياتها، كلّ هذه الوسائل قطفت ثمار ثورة 25 يناير، وخلقت مشهداً لا يملك أمامه الحكم فرصة الارتداد إلى الوراء.
ومقابل هذا المشهد، تحاول الدول المجاورة لمصر، كالأردن مثلا، أن تفرض المزيد من القيود على الحريّات الإعلاميّة، وتصادر حقّ المواطن بالحصول على المعلومة، وتداري عورة الفساد بمحاربة وسائل الإعلام التي تقترب من ملفّاته، في مشهد يناقض الحديث الرسمي المتعلّق ب "الإصلاح" بشكل فاضح، فأيّة رقابة ستحول دون الإمعان في مزيد من الفساد والاستبداد بعد تصفية الإعلام الحرّ ؟!
أمّا وسائل الإعلام الرسمي، فلم تعد قادرة في هذه المرحلة على الاستمرار بلعبة الاستخفاف بعقول الناس، حيث باتت المهمّة الوحيدة التي تؤدّيها كثير من الصحف، تتلخّص بتشكيل حاجز تحت الصحون يمنع وصول فتات الطعام إلى الأرض !!
واقع الإعلام الأردني -مقارنة بنظيره المصري، يبعث على الضحك الهستيري، وكلّما زادت القيود المفروضة على الإعلام كلّما أدركنا إلى أي زمن موغل في الأزل، تحاول السلطة الرجوع بالبلاد إليه.. ولن نستغرب كثيراً -نظرا لتوجّهات السلطة وملامح المرحلة المقبلة التي يدفع الحكم باتّجاهها- في حال بدأت وسائل الإعلام باستخدام ألواح الخشب والحبر السرّي لابتكار منشورات تضفي على عبق التاريخ سحر السينما المصريّة.