jo24_banner
jo24_banner

الجامعة إذ تستجلب المال من بناء محطة للبنزين.. شح المال أم شح الخيال والمعرفة والفكرة!

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


قبل أيام، تصدر خبر قيام جامعة رسمية كبيرة بتوقيع عقد مع شركة للمحروقات لاستثمار جزء من قطعة أرض تنتمي للحرم الجامعي، وتبعد عشرات الأمتار فقط عن كليات حيوية استثمرت الجامعة فيها وعلى مدى عقود طويلة مئات الملايين كمبان ومختبرات وبنى تحتية ولوجستية، وينتظم فيها آلاف الطلبة والموظفين وأعضاء من الهيئة التدريسية. خبر توقيع الاتفاقية لم يكن وقعه كوقع كثير من الأخبار التي يحفل بها موقع الجامعة الإخباري، بل كان أشبه بالصاعقة على الكثيرين، وحدث إثرها لغط كثير كان أشبه بالمعارك الشخصية حول الجوانب المالية والقانونية وسلامة الإجراءات الإدارية المتعلقة بالاتفاقية.

وبالرغم من كمّ الكلام والنقاش الذي جرى تبادله حول انتهاكات قانونية وإدارية محتملة، فإنني سوف أعرض عن تناول الجوانب القانونية والإدارية بل وحتى المالية المتعلقة بالاتفاقية. والسبب هو أن هناك جهات رقابية عديدة يقع على عاتقها التحقق من الجوانب المالية والإدارية والقانونية المتعلقة بالاتفاقية. فهناك جهات تنتمي الى الجامعة نفسها كدائرة الرقابة الإدارية، وهناك جهات رقابية ترتبط بالجامعة من قبيل مجلس الجامعة ومجلس الأمناء، وهنالك جهات رقابية أخرى تنتمي لوزارة التعليم العالي من قبيل مجلس التعليم العالي، ناهيك عن جهات رقابية تنتمي للدولة من قبيل القضاء وديوان المحاسبة ولجنة التربية والتعليم في البرلمان. وعليه فإن الحصافة والعقل يقضيان بترك مناقشة كل الأمور المتعلقة بقانونية مشروع الاستثمار في محطة المحروقات وشرعيته لهذه الجهات الرقابية والمحاسبية والقضائية المتخصصة.

وكأكاديمي يعمل منذ أنيف من عشرين عاما في الحرم الجامعي، وكباحث خاض كثيرا في أنثروبولوجيا الجامعة وسوسيولوجيتها أجدني معنيا بمحاكمة الفكرة ليس من الباب القانوني والمالي كما فعل كثيرون. بل أجدني مضطرا لمناقشة الفكرة؛ أي فكرة أن تجد جامعة ما في عصر البحث عن الطاقة النظيفة في بناء محطة للوقود حلا ماليا لأزمتها. بل وأجدني ممتلكا لكل المشروعية القانونية والأخلاقية والعلمية للوصول إلى محاكمة علمية وعقلية وأخلاقية ومنطقية واجتماعية لهذه الفكرة. وهو ما أجدني قادرا على فعله، بل وأشعر أن الواجب الأخلاقي والوطني والعلمي يقتضي من كل قادر على هذا الفعل أن يفعله.

ثمة مفارقة صارخة باتت تطبع وتسم حال الجامعات في الأردن هذه الأيام. فالجامعات -التي يفترض بها لا أن تكون منتجة للثروة والمال وبما لا يكفي احتياجاتها والعاملين بها فحسب، بل أن تكون مصنعا للثروة والمال والخير للمجتمع المحلي المحيط بها بل وللمجتمع الكبير الذي وجدت من أجل خدمته- باتت تعاني من المديونية والفقر، وقد جفت ضروعها. والحال، فإن مصدر الإحساس بوجود مفارقة تثير الحزن هو أن الجامعات باتت في المجتمعات الحديثة هي المصانع الحقيقية لثروة الأمم Wealth of Nations . فما الجامعات إلا مراكز ومجمعات ومصانع للمعرفة في عالم باتت فيه الدول التي تبني ثروتها على اقتصاديات المعرفة هي الأكثر غنى وازدهارا.

ذات يوم وفي بدايات التاريخ الإنساني وحين كان الإنسان مجرد صائد للحيوان ومتلقط للثمار، لم يكن الإنسان مهتما بمفهوم الثروة إنتاجا وتنظيرا. ومع تعقد المجتمع الإنساني بدأ سعي الإنسان للتملك ومراكمة الثروة، فاكتشف الإنسان في الإنسان العبد The slave القادر على العمل والقابل للبيع والشراء مصدرا للثروة. وفي حقبة لاحقة باتت الأرض وخيراتها الزراعية أساسا للثروة والمكانة الاجتماعية فكانت مجتمعات الإقطاع، لنصل وبدء من القرن السابع عشر إلى ظاهرة المصنع والسلعة لتكون أساسا لثروة الأمم وحيث ساد البشرية التنظيم الرأسمالي، أما وقد بتنا نعيش عصر ما بعد الصناعة والمصنع، فقد باتت المعرفة هي أساس ثروة الأمم والمجتمعات والأفراد. إن دولا مثل فنلندا والسويد واليابان وكوريا وألمانيا باتت تحقق أفضل النتائج على صعيد التنمية وتوليد الغنى والثروة من خلال ثلاثية الجامعة - المعرفة- الثروة.

المعرفة التي باتت هي الاقتصاد الجديد والثروة الحقيقية للأمم، هي ما دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى تعيين وتسمية مفوض للاتحاد الأوروبي يقيم في أحد مباني مدينة لندن البريطانية مهمته فقط هي تطوير الخيال والتخيل وتنميته ورعايته لدى مواطني دول الاتحاد. فالخيال والتخيل هو الرديف للأفكار وللمعرفة، ومن رحم الخيال والتخيل تولد كل الأفكار وبراءات الاختراع التي تدفع بالتاريخ الإنساني نحو التقدم.

ربما كانت المقدمة النظرية التي سقتها ضرورية لإدراك المفارقة والمأزق الذي وضعت الجامعة نفسها فيه حين وقعت اتفاقية محطة المحروقات. فالجامعة التي تعج بالعقول التي تمتلك معرفة وخبرات تقنية وإدارية هي مصنع حقيقي للثروة وللمال وتتوزع تخصصاتهم على حقول معرفية عديدة يحتاجها اقتصاد الدولة, كما يحتاجها المجتمع. فالمنطق يقول بأن المصدر الرئيس لتوليد الثروة داخل الجامعة هو ما تشتمل عليه الجامعة من كوادر وموارد بشرية في الاقتصاد والهندسة والطب والفنون والإعلام والسياسة واللغة والشريعة. وتشتمل مهمة صانع القرار او صناع القرار في الجامعة ومن كان وراء اختيارهم أن يتم اختيار تلك العناصر القيادية التي تعرف ما هي المصادر المولدة للثروة داخل الجامعات والتي يقف على رأسها العنصر البشري.

إن مروحة الأفكار التي يمكن لرئيس الجامعة أن يفكر بها كي يجلب المال إلى جامعته واسعة جدا ولكنها تتطلب إدراكا من الرئيس ومن صناع القرار في الجامعة لطبيعة الموارد البشرية الموجودة في الجامعة، كما تتطلب إدراكا للفاعلين والشركاء الاقتصاديين في الدولة والمجتمع، كما تتطلب في الوقت عينه إدراكا للحاجات التنموية في المجتمع المحلي وفي المجتمع الكبير. فالموارد البشرية في كل كلية يمكن استثمارها وجلب المال من خلال انخراطها في نسج شراكات مع البنوك وشركات التأمين والوزارات والبلديات والمستشفيات والمؤسسات الاعلامية وغيرها الكثير من الجهات. وبدلا من تحصيل دنانير قليلة عن طريق محطة للمحروقات فقد كان يمكن للجامعة أن تمارس النبالة الأخلاقية والتعليمية والقيمية المنوطة بها من خلال جلب المال عن طريق التطبيقات الذكية والبرامج الحاسوبية والدورات التدريبية والاستشارات الفنية والمشاريع البحثية التي يمكن توليدها من قبل مواردها البشرية والموجودة بكثرة في كلياتها المختلفة.

وبالتوازي مع عدم الانسجام ما بين ما تمتلكه الجامعة من موارد وبين ما تفكر به من مصادر لجلب المال لخزينتها المتعبة، ثمة معضلة أخلاقية لم يفكر بها صانع القرار حين فكر بجلب المال عن طريق محطة للوقود. وتكمن المعضلة في مدى الانسجام الأخلاقي بين الرسالة الأخلاقية والاجتماعية والوطنية للجامعة وبين طبيعة المشروع الذي فكرت به إدارة الجامعة أي محطة الوقود. ففي حين تتجه الجامعة كما الدولة الأردنية كما دول العالم كله نحو الاستثمار في الطاقة النظيفة تستثمر الجامعة في مشروع يمثل النقيض لرسالتها الأخلاقية والوطنية أي الوقود الاحفوري الذي باتت تحاربه معظم دول العالم.

وكي ندرك الإشكاليات الأخلاقية التي يطرحها المشروع، دعونا نفكر بحال وزارة الصحة التي تقوم رسالتها على إنتاج افضل مستوى صحي للمواطنين وتقوم مهمتها على بناء الجسم العفي لمواطنيها لو قامت مثلا بالاستثمار في بناء مصانع للسجاير والكحول. ودعونا نفكر بوزارة الزراعة التي تعنى بتوفير أفضل الغذاء للمواطنين لو قامت مثلا ببناء مزارع للحشيش من أجل تحسين المدخول المادي المتأتي لخزينتها.

قبل سنين قليلة قامت الحكومة الصينية بإلزام وزارة الدفاع فيها بتصويب أوضاع هذه الوزارة الاستثمارية بعد أن اكتشفت الحكومة أن ثمة مشاريع استثمارية تتبع لوزارة الدفاع الصينية في قطاع الترفيه والتسلية انزلقت لتقترب ولو قليلا من تجارة الجنس وتجارة الجسد باعتبار أن الحد الفاصل ما بين الترفيه وتجارة الجنس هو رفيع، وقد تختلط الأمور بسببه. ورغم أنها تحقق الكثير من المال ولكن وبسبب التناقض الأخلاقي لهذه المشروعات الاستثمارية مع رسالة الجيش والدولة الصينيتين، كان قرار الدولة الصينية بإغلاق الكثير من هذه المنشآت.

أجزم أن شح المال الذي تعاني منه الجامعات كما البلاد بكاملها لم يكن نتاجا لشح في الموارد الطبيعية بقدر ما هو شح وفقر في السياسة والخيال والمعرفة والفكرة.
 
تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير