عصيان معان.. وسيناريو المغامرة الرسميّة
كتب تامر خرمه
معان أعلنت العصيان المدني.. نتيجة عجز السلطة وفشلها في الحفاظ على "نعمة الأمن والأمان"، التي طالما تغنّت بها واتّخذتها ذريعة لحرمان الناس من أمنهم الاقتصادي، وتبرير الانحياز ضد خبز المواطن وقوته اليومي، عبر سياسات اللوبي الاقتصادي المقامر بحاضر البلاد ومستقبلها.
ترى.. ما الذي يجري في جنوبنا الرازح تحت وطأة الفقر والخوف والتهميش ؟؟ وإلى أين تريد الأيدي الصفراء التي أشعلت نار الفتنة بين أبناء الوطن الواحد الوصول بالبلاد ؟! وهل يمكن للردّ على احتجاجات أهالي معان بالرصاص الحيّ أن يعيد الهدوء إلى هذه المدينة التي طالت معاناتها لأكثر من شهر، تنصّلت خلاله السلطة من مسؤوليّاتها واقتصر دورها على التقوقع في مقاعد المتفرّجين ؟!
المواطن بكلّ بساطة أدرك حقيقة مؤلمة، تتلخّص في ان الدولة عاجزة عن حمايته، وكلّ ما تقوم به يقتصر على مصادرة رزقه وأحلامه، فنتائج الانتقال من نمط الدولة الريعية إلى هذا النمط الغريب للإدارة، والذي لا يمكن وصفه سوى بنمط الجباية المافيويّة، مقابل تجاهل المسؤوليّة وتكريس منطق "حارة كلّ من إيده إله"، لن تتوقّف عند حدود تأجيج الانتماءات والولاءات ما دون الوطنيّة فحسب، أو مجرّد الانكفاء في عباءة العائلة او الجماعة لحماية الذات، بل من شأن هذا الواقع دفع المواطن رغما عنه إلى أقصى انماط السلوك تطرّفاً للدفاع عن حقّه بالوجود، ولن يكون العصيان المدني سوى أكثر الأشكال سلميّة للتعبير عمّا وصلت إليه درجة الاحتقان والغليان التي يموج بها الشارع الأردني منذ نحو عقد من الزمن.
وفي ظلّ هذه الأزمة التي من المفترض أن ترتجف السلطة -أيّة سلطة- أمامها وتبذل كلّ ما أوتيت من جهد وخبرة في إدارة الشأن العام لتجاوز ما آلت إليه الأوضاع، يتّجه جهابذة الإدارة الأردنيّة، وعشّاق المغامرة في دوائر صنع القرار، إلى رفع أسعار الماء والكهرباء، والإمعان بتنفيذ كافّة شروط صندوق النقد الدولي دون أن يكون مضطراً لطلبها، فرفع الدعم كان جوهر الاملاء الاقتصادي، فيما قرّر رئيس الوزراء -المعاد تكليفه بعد إصراره على تفجير هبّة تشرين- إخراج إملاءات المؤسّسات الماليّة الدوليّة بطريقته الخاصّة والمغامِرة، معتقداً أنّه سينجح في توجّهاته لإجراء تعديل وزاري على حكومته "الرشيقة" بعد قرار رفع الأسعار المرتقب في ظلّ هذه الظروف الاستثنائيّة !!
لعبة التوزير انتهت، ونجح د. عبدالله النسور بالاختباء تماماً خلف الملك، ومضى في إشباع مازوشيّته لكرسيّ الرئاسة وعشقه الممنوع لصندوق النقد الدوليّ، في محاولة خلق لوبي نيابي يتولّى الدفاع عن قراراته وتوجّهاته حتّى لو اضطرّ لضرب "المشاغبين" تحت قبّة البرلمان، تمهيداً لإعلان قرار رفع الأسعار دون التعرّض لنكسة طرح الثقة، المستبعدة أساساً.
والطريف هنا أن الرئيس تعهّد بعدم اتّخاذ قرار رفع أسعار الماء والكهرباء إلا بالتوافق مع أعضاء المجلس النيابي، رغم أنّه بادر بتعهّداته لصندوق النقد بالإقدام على هذه الخطوة !!
ويعتقد البعض ان كلّ ما سيطرأ بعد إعلان قرار النسور المرتقب، سيقتصر على إجراء تغيير وزاريّ يعيد الأمور إلى نصابها ويمتصّ غضبة الشارع في حال تكرّرت هبّة تشرين.. ولكن لا يبدو أن صيف حزيران سيكون برداً وسلاماً على مراكز صنع القرار، ومن العبث المراهنة على تصفية الإعلام المستقل عبر حجب المواقع الالكترونيّة، واستمرار نهج الاعتقال السياسي وملاحقة النشطاء كما حدث خلال الهبّة السابقة، فالمؤشّرات تؤكّد أنه في حال إعلان قرار الرفع، فإن الأمور لن تقف عند حدود الهبّة.
كتّاب السلطة وأقلامها لجأوا في خطوة استباقيّة إلى الترويج لفكرة تبعث غرابتها على الدهشة، ومفاد ما تفتّقت عنه أذهانهم أن إجراء تعديل او تغيير وزاريّ يستند إلى بعض الأسماء "الوازنة" من شأنه تقويض الغضب الشعبي قبل انفجاره، وكأنّ مشكلة الناس تتمثّل بأسماء أعضاء الفريق الوزاري وليس بلقمة العيش !!
المناورة السياسيّة من الصعب أن تكون كفيلة بإقناع المواطن الأردني بقبول الجوع بعد أن فقد ثقته بقدرة بل ورغبة الدولة بتوفير الرعاية والحماية الاجتماعيّة.. وكذلك فإنّه نتيجة لغياب الإرادة -وربّما القدرة- السياسيّة لاحتواء الأزمة المركّبة التي تعصف بالبلاد، فإنّه من المستبعد أن تلجأ السلطة لإعادة تدوير تجربة العام 1989، واحتواء الغضبة عبر إجراء إصلاحات ديمقراطيّة وإشراك المعارضة في صنع القرار، كما حدث آنذاك، حيث استطاع النظام تدجين كافّة قوى ومؤسّسات المجتمع المدني لإقناع الشارع بالحفاظ على هدوئه، غير أن المعطيات المحليّة والإقليميّة والدوليّة هذه الأيّام تختلف تماما عمّا كانت عليه الأمور في السابق.
أمّا المغامرة الاكثر خطورة، والتي يبدو من مجريات الأمور انّ هناك من يدفع باتجاه خوضها، فتتلخّص بمحاولة تأزيم الأوضاع في مدينة معان ودفعها إلى درجة متطرّفة، قبل استخدام القوّة المفرطة وقمع الناس وترويعهم، ما يقود -وفق المنطق المغامر- إلى فرض سطوة الخوف على الشارع الأردني، قبل تصفية الإعلام المستقلّ وخنق الحقيقة، من أجل تمرير قرار رفع الأسعار دون ان يجرؤ أحد على النزول إلى الشارع وإعلان موقفه الرافض لسياسات الإفقار والتهميش.. فليس من المستبعد عن الإدارة التي اعتدنا نزقها اللجوء إلى هذه المغامرة التي لا يمكن ضمان نتائجها بأيّ حال من الأحوال.