jo24_banner
jo24_banner

فرانكشتيان جديد يبتلع أمانة عمّان.. اختزال الدولة في شركات!

فرانكشتيان جديد يبتلع أمانة عمّان.. اختزال الدولة في شركات!
جو 24 :
تامر خورما - كثيرة هي المصطلحات التي قد ينحتها الخيال الجامح، أو حتّى يشتقّها من العدم. الفانتازيا لا تعرف حدودا.. ومن المصطلحات الفانتازيّة التي انبثقت عن قصص الخيال مفهوم جمهوريّات الشركات، أو دولة الشركات. طبعا لا يوجد على وجه هذا الكوكب -حتّى الآن- كيان سياسي يعبّر عن هذا المفهوم بشكل حرفي. حتّى أعتى الدول الرأسماليّة توحّشا وأكثرها انحرافا عن المصالح الشعبيّة، لا تزال تمتلك مؤسّسات تمارس من خلالها الدولة الدور الذي خلقت لأجله: إدارة شؤون الناس.

ولكن هذا لم يمنع استخدام مفهوم دول الشركات في قصص الخيال العلمي حينا، وفي التعليقات السياسيّة الساخرة، التي تحذّر من تطرف جموح الرسلمة في كثير من الأحيان. ولكن ماذا لو جنحت دولة ما، أو لنقل مدينة في بقعة ما على هذه الخرائط، لتكون محض شركة تتنكّر بملامح منظومة حكم؟!

أمانة عمّان الكبرى تجيبك على هذا التساؤل بصفعة تنسيك كلّ ما تعلّمته من نظم وأحكام علم المنطق. نعم، في هذا العام الذي لايزال يرتدي ثوبه الجديد أراد العمدة، يوسف الشواربة، دخول التاريخ من أوسع أبواب نحت المفاهيم في اختراع "مدينة الشركة"، وذلك عبر اختلاق "أفاتار" يقوم بدور الأمانة، شاءت المصالح -أو ربّما الصدفة- تسميته بـ "شركة رؤية عمّان للاستثمار والتطوير".

بعيدا عن العمل المؤسّساتي الذي يفترض أن يحكم إدارة الدول والمدن، تقرّر تجريد الأمانة وتفريغها من مضمون وجوهر وجودها، عبر تحميل مسؤوليّاتها وواجباتها، التي يفترض أن تضطلع بها لقاء ما يسدّده دافع الضرائب من عرقه اليوميّ، لتصبح فجأة رهينة لتلك الشركة، التي ستدير العاصمة وفقا لاعتبارات السوق ومعايير الاستثمار، سواء عبر استثمار الأراضي، أو بناء مجمّعات الرفاه للطبقة الحريريّة، أو حتّى تولّي مسؤوليّة النقل العام، رغم وجود وزارة مكلّفة بهذا الملف.

هذا ما يحصل اليوم "وعلى عينك يا تاجر".. شركة رؤية عمّان ستتولّى شؤون الأمانة، التي تقرّر اختزالها في هذه الشركة المستحدثة. "الأمانة" تختزل في شركة، وهذه الشركة تتفرّع في شركة أخرى، هي "شركة رؤية عمّان للنقل"، ولا ندري عدد الشركات الفرعيّة التي قد تنتج بعد ذلك!

ما معنى أن تقوم أمانة عمّان بإنشاء شركة تتولّى مهامّها؟ إذا كانت الأمانة عاجزة عن النهوض بالعاصمة -بسبب غياب الرقابة أو عبثيّة طرح العطاءات ومزاجيّة انتقاء الشركاء- فهل يكمن الحلّ في تحلّل الأمانة بشركة، لا تعترف إلاّ بلغة المصالح الخاصّة، والمنافع الشخصيّة؟

كان من الممكن فهم واستيعاب تعميق الشراكة بين القطاع العام ونظيره الخاص، عبر ضبط نسق العلاقة بينهما، وتنظيمها، لتطوير العاصمة والارتقاء بخدماتها، ولكن أن تنشئ الأمانة نفسها شركة تتولّى أمورها، فهذا لا يمكن تفسيره إلا بوجود تعمّد لتفكيك وتفريغ مؤسّسات الدولة، واستشراء نزعة جامحة تسعى إلى فرض حكم الشركات.

الأردنيون لم يستوعبوا بعد كيف فرض عليهم دعم الإرهاب الصهيوني، ورهن حاضرهم ومستقبلهم وعصب دولتهم الإقتصادي لإرادة هذا العدوّ وأطماعه، التي لم تقف يوما عند أي حدّ، منذ اختلاق هذا "الفرانكشتاين" العبري. تقويض السيادة على الإقتصاد الوطني حصل بفضل شركة أيضا.. شركة الكهرباء الوطنيّة، التي قامت بتوقيع اتفاقيّة ألزمت الدولة الأردنيّة بالإعتماد على غاز الإحتلال كمصدر رئيسي للطاقة.

هذا هذه هي الرؤية "الحداثيّة" للدخول إلى أحضان العقد الثالث لهذه الألفيّة، التي يبدو أنّها لعنت بسياسة تحويل الوطن إلى شركات، تنهش في سيادة مؤسّسات الدولة، وتسهم في تحلّلها؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فما هو مبرّر اختزال الدوائر الحكوميّة ومؤسّسات الدولة، في منظومة حكم شركات تختلق بجرّة قلم؟! شركة كهرباء تتجاوز مؤسّسة الدولة التشريعيّة والإرادة الشعبيّة، لتحقن في شرايين الأردن غاز الإحتلال.. واليوم تتحلّل أمانة العاصمة في شركة.. هل بلغ القطاع العام هذه الدرجة من التحلّل والتفكّك؟!

طبعا مثل هذه الشركات ستكون بمنأى عن أيّة رقابة أو محاسبة، ولن يملك أحد سبيلا لكبح جماح مغامراتها الكارثيّة.. ما الذي سيمنع شركة رؤية عمّان من اللحاق مثلا بركب شركة الكهرباء في هرولتها التطبيعيّة إلى أحضان الإحتلال الصهيوني؟ قد يتلقّى الوطن صفعة أخرى بتوقيع اتفاقيّة بين "رؤية عمان" وشركة نقل صهيونيّة، ليصبح دقيق غاز الإحتلال طحينا لشبكة المواصلات، وعندها يمكن للنواب الإستعراض رفضا كما يشاؤون، في النهاية ستقول الحكومة أن لا علاقة لها بهذا الأمر، فهو مجرّد اتّفاقيّة وقّعت بين "شركتين"، وباتت واقعا لا يمكن رفضه!

بالأمس القريب تنفّس الناس بعض الصعداء عبر قرارات دمج مؤسّسات مستقلّة.. لاح شيء ما في نهاية النفق، قد يكون بصيص أمل باستعادة الدولة لدورها.. ولكن يبدو أن المعادلة ليست كما صوّرها الساسة.. إذا كان التحلّل قد بلغ نقطة اللاعودة، فلماذا لا "نغلق الطابق" ونسلّم الدولة بكامل مؤسّساتها للقطاع الخاص، حتّى يتولّى إدارة شؤون الناس. على الأقل سنكون دولة يديرها القطاع الخاص، ولكن سنبقى دولة، حتّى ولو بأبسط ترجمة للمفردة، حيث يمكن وضع مسافة وضوابط تحكم علاقة الدولة بهذا القطاع، وتفرض رقابة سلطتها التشريعيّة عليه، عوضا عن التحلّل التام في شركات "فرانكشتانية"!
 
تابعو الأردن 24 على google news