jo24_banner
jo24_banner

الصين تحسم معركة إنتاج "الصورة" عن الكورونا بعد أن حسمت مصانعها معركة إنتاج البضاعة

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :



قبل حوالي الأسبوعين تمكن مراسل وكالة إيتار تاس الروسية من الوصول إلى معطيات السجل الطبي للولايات المتحدة لتبث الوكالة خبرا يقول مضمونه ما يلي: في العام الماضي أي في العام 2019 أصيب 22 مليون أمريكي بالأنفلونزا توفي منهم 12000 شخص. الخبر الرقم الذي بثته وكالة تاس الروسية مر مرور الكرام ولم يسترع الانتباه لا بالتعليق ولا التحليل ولا في التدقيق حتى.

ربما من المهم الإشارة إلى أن الخبر الذي بثته وكالة إيتار تاس حول أعداد المصابين بمرض الأنفلونزا بأنواعه في الولايات المتحدة تزامن مع انشغال العالم وفقدان صوابه حول انتشار مرض الكورونا في الصين. الأرقام حول الأنفلونزا الصينية تقول ما يلي: من أصل مليار و 400 مليون صيني، أصيب ما يصل إلى ثمانين ألف مواطن صيني بالكورونا وتوفي ما يقرب ال ثلاثة آلاف منهم في حين تماثل ويتماثل عشرات الآلاف منهم للشفاء.

موضوعيا تبدو الأرقام حول الأنفلونزا الأمريكية التي ضربت الولايات المتحدة أكثر فلكية وخطورة وفتكا. ولكن ولأننا نعيش عصر الصورة وعصر الإنتاج الكثيف للصور، ولأننا بتنا نعيش في عالم باتت فيه "صورة الواقع" أكثر حقيقية وواقعية من الواقع نفسه، فان الأرقام الموضوعية حول الواقع الأمريكي الموبوء بالمرض والأنفلونزا والموت لم يكن يراد لها أن ترصد، ولا أن توثق أو تتداول، وبقيت صورة الولايات المتحدة في أذهاننا وأذهان العالم هي صورة بلاد الرجل الأبيض الوسيم الذي تملئه الصحة والقوة والعافية.

الأرقام والإحصائيات حول الأنفلونزا الأمريكية لم يكن يراد لها أن تنشر لأنها ببساطة تنسف صورة الرجل الأبيض ذات الصحة الجيدة، والدولة القوية ذات النظام الصحي والطبي المتفوق، والمجتمع الأبيض الذي يتغذى بشكل صحيح ويحافظ على صحته. وعليه، فإن نشر الأرقام كان سينسف الصورة المتوارثة، أما إخفاء الأرقام فكان هو المطلوب كي تبقى الولايات المتحدة رمزا للتفوق في الصناعة والتكنولوجيا والعلم كما في صحة البدن وعافيته. وكي تبقى الولايات المتحدة هي الأرض الجاذبة للعقول التي يتم "تطفيشها" من بلادها، وكي تبقى الولايات المتحدة ملاذا للرساميل التي يتم تهريبها من أوطانها وبما يعزز من بقاء النموذج الأمريكي قويا، وبما يبقي الحلم الأمريكي مستمرا.

ربما كان من نافلة القول، تكرار أن آليات الهيمنة الغربية التي تمسك بالعالم من رقبته هي آليات اقتصادية وسياسية وعسكرية ومعرفية وهي أيضا آليات تقوم على احتكار إنتاج الصور والرموز بنفس القدر التي تحتكر فيه إنتاج البضاعة والسلع. فسيطرة الغرب وسطوته لا يمكن فهمها إذا تركزت عيوننا على هيمنة الغرب عسكريا واقتصاديا دون أن ننتبه إلى تلك الهيمنة الغربية والاحتكار التاريخي للغرب لإنتاج الصورة والرمز حول الغرب وتفوقه وعظمته وعقلانيته وإنسانيته. بل ينبغي أن يمتد نظرنا ليدرك آليات إنتاج الغرب لهيمنته علينا والتي تتجلى في إنتاج الصور التي نستهلكها عن أنفسنا لتتم فقط في مصانع الغرب نفسه. فنحن لا نستهلك فقط صور الغرب عن نفسه، بل أننا نستهلك ما ينتجه الغرب من صور ورموز عنا نحن. الغرب لا يصنع صورته فقط بل يصنع صورتنا ويصدرها لنا لنستهلكها تماما كما اعتاد أن يصنع السيارة والثلاجة ليصدرها لنا لنستهلكها.

في أربعينيات القرن الماضي غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان حجم الاقتصاد الأمريكي يصل إلى أكثر من 45% من حجم الاقتصاد العالمي. الولايات تنتج من السلع والخدمات ما يصل إلى نصف ما ينتجه سكان الأرض كلها. وحتى سنوات التسعينيات من القرن الماضي كان الغرب ومن خلال وكالات أنبائه وإمبراطورياته في الإعلام البصري والمسموع يسيطر على ما يصل إلى أكثر من 70% من إنتاج المعلومات وتدفقها. ليس من باب المصادفة أن تواكب هيمنة الغرب في الاقتصاد والعسكر هيمنة مماثلة في إنتاج المعلومات والصور والرموز. في قوة الولايات المتحدة وتحقيق هيمنتها تتساوى قوة البنتاغون مع قوة Holywood وربما تفوقت الثانية في تسجيل النقاط لصالح الوحش الأمريكي.

تفكيك معركة الصورة التي حاولت مصانع الغرب الإعلامية والمعرفية أن تنتجها حول الصين والكورونا تكشف لنا مكونات الصورة التي حاول الغرب أن ينتجها حول الكورونا ليستثمرها في الإعلام كما الاقتصاد والسياسة وبما يتيح وقف الإندفاعة التاريخية للصين، كما يتيح تحقيق الاستدامة في التفوق الأمريكي على العالم. وفي معركة إنتاج الصورة التي خاضها الغرب ضد الصين تناوب ساسة وإعلاميون ونخب دينية وثقافية وعلى أعلى المستويات على ترديد مقولات وسرديات وبما يتيح أنتاج وتداول أكبر قدر من الصور السلبية والصور النمطية السلبية عن الصين في محاولة للنيل من صورة النموذج الصيني الذي بات يثير إعجاب بعض العالم بينما يثير حسد بعضه الآخر.

منذ البداية كان القرار في دوائر صنع القرار السياسي والإعلامي بأن يتم ربط الفيروس بالصين. الكورونا لم يعد مجرد فيروس ينتمي إلى عالم الطبيعة والبيولوجيا وحيث لا مكان للهويات القومية والدينية واللغوية بل أريد للفيروس أن يكون له لغة ودين وهوية قومية. فصار اسم الفيروس هو الفيروس الصيني. ولهذا كانت عبارة ترامب العلنية "الفيروس الصيني" التي رددها على مسمع العالم كله ومرآه. لم يحدث إن استخدم العالم عبارات سرطان الرئة الفرنسي، والكوليرا الألمانية وصداع الرأس الأمريكي حتى. التسمية الترامبية للفيروس بأنه صيني لم تكن مجرد زلة لسان، كما لم تكن مجرد صياغة لغوية آنية قام بها شخص أو فرد من ال 400 مليون أمريكي، بل هي عبارة تعكس العقل الجمعي الأمريكي أو عقل تلك القوى التي لطالما هيمنت على صناعة هذا العقل الأمريكي الجمعي.

وتتوالى السرديات حول الفيروس "الصيني" وبما يؤدي إلى شيطنة الصين كأمة وثقافة وهوية. فيتم إنتاج سرديات حول ربط الفيروس بالصين بطعام الصينيين الغرائبي او "الإكزوتيك" من خلال القول أن مصدر الفيروس هو تلك الأطعمة الغريبة والغرائبية و"المحرمة" من طيور وزواحف وخفافيش يستهلكها الصينيون. وهنا تقوم السرديات بشيطنة المطبخ الصيني من خلال ربط هذا المطبخ بممارسات مطبخية "شاذة". كما يتم ربط عادات الطبخ الصينية، وحيث الصين تمتلك واحدا من أعرق المطابخ العالمية وأكثرها غنى، بممارسات تنتمي إلى سنوات الفقر والشح في البر الصيني. وإذ يتم إنتاج سرديات في الإعلام عن مجاعات حدثت في تاريخ الصين اضطرت الناس لان يشملوا في قائمة طعامهم بعض الحيوانات والحشرات كالكلاب والخفافيش والقوارض.

وفي حرب الصورة واستغلال الكورونا ضد الصين ونموذجها كان العزف واضحا منذ البداية على فشل الصين حكومة وشعبا وثقافة في معالجة الوباء واحتوائه وحيث تم التلميح أحيانا والتصريح في أحيان أخرى بصورة خبيثة إلى عدم صدق الحكومة الصينية في أرقامها وفي قولها الحقيقة حول ما يجري في مدينة ووهان. وهنا ربما كانت هناك استعادة واستحضار وبشكل خفي لمقولات الاستبداد الشرقي، وللشرق ذات الثقافة السلطة الحاكمة الاستبدادية التي تحتكر الحقيقة وتخفيها عن شعوبها والتي لطالما كانت لازمة في الخطاب الغربي المعرفي الاستشراقي.

وفي حرب الصورة ضد الصين أيضا تم استحضار الخطاب الديني والإيماني والإلهي وحيث يمثل مرض الكورونا لعنة من الإلهة لثقافة البر الصيني التي خالفت تعاليم الآلهة في قائمة طعامها اليومية، فحلت عليها اللعنة الإلهية. لا يعرف هؤلاء ولا يودون أن يعرفوا أن فيروسا مشابها للكورونا الذي يربطه الناس بحيوانات يقترب منها الصينيون، يأتي من الاختلاط والاقتراب من الجمال العربية. فالاحصائيات تسجل أكثر من 2500 حالة وفاة في المشرق العربي نتيجة الاتصال بالجمال في مجتمعات يقوم البعض فيها بشرب بول البعير باعتباره من طقوس التقديس والعبادة. علوم الطب والبيولوجيا تقول أن الفيروسات والبكتيريا هي من حقائق الكون وأن إنتاجها وتصنيعها لا يقتصر على حيوان أو كائن. القطط والبغال والجمال والماعز كما الإنسان، تنتج كلها فيروسات وبكتيريا ولكنها تنتج أيضا وسائل مقاومتها وهزيمتها. هكذا هي سنة البيولوجيا.

في مواجهة حرب "الصورة " والإعلام التي شنها الغرب واستطرادا الولايات المتحدة الأمريكية على الصين من خلال ربطها بالفيروس والتسبب بإنتاجه وتسهيل انتشاره، ومن خلال ربط ثقافتها ونمط حياتها بالتسبب بإنتاج الفيروس. سجلت الصين نجاحا أذهل العالم وجعل السحر ينقلب على الساحر على صعيد تصنيع الصورة. فالصين نجحت في صناعة صورة وصياغة سرديات ومرويات كانت في غاية الايجابية حول تعاطيها مع المرض واحتوائه واحتواء نتائجه.

فالصور التي بات يتداولها العالم تحكي عن نجاح باهر وفي زمن قياسي في احتواء المرض، كما تحكي عن المستوى غير المسبوق في سرعة التحرك لدى الدولة والحزب الشيوعي الصيني ومؤسساته في التصدي للمرض، كما تحكي الصور عن نماذج مذهلة من الروبوتات الصينية التي كانت تتحرك في الشوارع وفي العيادات مساهمة في الجهد في احتواء المرض. ولعل مصدر الانبهار كان في المستوى غير المسبوق من التناغم والتعاضد بين الدولة والقواعد الجماهيرية والشعبية.

ولعل التعبير الاكبر عن خسارة الغرب في حرب صناعة الصورة حول الكورونا وفي استثمار نتائجه سياسيا واقتصاديا بل وجيواستراتيجيا يكفي الإشارة إلى واقعتين. الواقعة الأولى تتمثل في بث صور لطائرة صينية وليس أمريكية وهي تحط في مطار روما الايطالي حاملة معونات وأطقما طبية صينية كي تمد يد العون للشعب الايطالي في التصدي للوباء. أما الواقعة الثانية فتتجسد في تلقي الحكومة الفرنسية تجهيزات طبية وأكثر من 15 مليون قناع طبي من الصين. في حرب الصورة اختفى الغربي والأمريكي ذو العيون الزرقاء باعتباره المنقذ وبدلا منه صار الصيني ذو الشعر الأسود والعيون الصغيرة هو المنقذ.

تذكروا أنه عشية نهاية الحرب الثانية كانت اليد التي هبت لتساعد أوروبا الغربية الخارجة من جحيم الحرب العالمية الثانية هي اليد الأمريكية التي كان اسمها مشروع مارشال. وأما في حرب الكورونا فقد غابت يد العون الأمريكية عن أوروبا المنهكة والخائفة من المرض، فكانت اليد الصينية. الارقام تقول أيضا أن صادرات الصين من البضائع العام الماضي وصلت إلى إثنين ونصف الترليون من الدولارات في حين كانت صادرات الولايات المتحدة أقل من الواحد ونصف من الترليون.
 
تابعو الأردن 24 على google news