jo24_banner
jo24_banner

عن أزمة الكورونا و"السرديات الكبرى "وأزمة القطاع الصحي الأردني

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :
ذات يوم من أربعينيات القرن العشرين طرح سؤال على الزعيم الثوري الصيني التاريخي ماو تسي تونغ ومؤسس الدولة الصينية الحديثة إستمزج رأيه فيه عن الثورة الفرنسية التي حدثت في أواخر القرن الثامن عشر. لم ينخرط الرئيس الصيني في نقاش مطول حول ثورة كان يمكنه أن يستغرق ساعات طوال، فكان جوابه الصادم: " من المبكر الحكم على هذه الثورة ومحاكمتها". في أزمة الكورونا التي ما زلنا نعيش فصولها الأولى ربما، أجدني وقد استعدت هذه الجملة الشهيرة للزعيم الصيني التاريخي. من المبكر جدا محاكمة تجربة الإنسانية مع وباء الكورونا ومن المبكر جدا استخلاص العبر على المستوى الطبي كما العلمي والسياسي والأخلاقي والوجودي، وجل ما نستطيع فعله في هذه المرحلة هو استحضار وتوثيق الحيثيات أو التفاصيل أو بعضها على الأقل التي تتعلق بهذه المشهدية التاريخية.

في مشهدية الكورونا لنذهب غير بعيد عن الصور التي تلتقطها الكاميرات لشوارع مدن كبرى وقد هجرها سكانها خوفا وقلقا على حياتهم، ولأسرة طبية تعد بالآلاف وقد تم تنضيدها في انتظار آلاف المصابين بالوباء وضحاياه والذي هم غالبا من المسنين أي من الفئات الاكثر هشاشة جسديا وصحيا وماليا أيضا. وغير بعيد عن الصور اليومية لمشاهد الهرب إلى البيوت والانسحاب من المدن وفضاءاتها العامة، بات النقاش عن المجتمع والفرد والدولة يحضر وبقوة. النقاش حول هذه الثلاثية بات حاضرا وملحا تحت ضغط الهجوم الكاسح للفيروس والانتشار السريع والمثير للقلق له.

في تفاصيل المواجهة مع الكورونا تبرز نماذج مختلفة في مقاربة المجتمعات الإنسانية لمكافحة الفيروس. الصين قدمت نموذجا في حين قدمت ايطاليا نموذجا آخر، كما قدمت فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا نماذجها. في هذه النماذج المختلفة من إدارة الصراع مع المرض ومواجهته يمكن للمرء أن يلحظ الكيفية والأدوات والفلسفة التي وظفتها كل دولة في صراعها مع الوباء، كما يمكنه أن يلحظ التراث التاريخي للدولة وذراعها كما للعلاقة التاريخية بين الدولة وقواعدها الاجتماعية الواسعة. ففي مواجهة الوباء حتى اللحظة، كان لافتا انخفاض أرقام الضحايا في الصين وألمانيا وفرنسا مقارنة بدول مثل إيطاليا والولايات المتحدة. فالبلدان التي سجلت نجاحا في مواجهة المرض كانت الدول التي استندت إلى نماذج تاريخية تضع جهاز الدولة في قلب مشروع إدارة المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا في حين كانت البلدان التي كانت ترى في الفرد ومبادراته واجتهاداته بمثابة القوة الدافعة لتنميتها الاقتصادية والاجتماعية والصحية تبدو أكثر هشاشة وضعفا وعجزا في مواجهة الوباء.

كان يحلو للمفكر الفرنسي الكبير ميشيل فوكوه أن يطلق على القرن العشرين إسم عصر "السرديات الكبرى". لم يكن التطور التكنولوجي الهائل في هذا القرن، ولا التطور العلمي ولا صعود الانسان للقمر ما كان يستحق تسمية القرن العشرين باسمه. ما كان ملفتا بالنسبة لفوكوه في هذا القرن هو هيمنة "السرديات الكبرى" وانتشارها في أوساط النخب والجماهير كما في أوساط صناع القرار. السرديات الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية والليبرالية والتي تشتمل على منظومات مفاهيمية تتعلق بالاقتصاد والسياسة والاجتماع والأخلاق والوجود هي ظواهر مستجدة في التاريخ الإنساني كما يقول فوكوه.

في "السرديات الكبرى" كان دور الدولة في إدارة المجتمع وشؤون الفرد موضوع صراع. في السرديات الليبرالية والرأسمالية طغت مفاهيم الفرد واليد الخفية في إدارة الاقتصاد والمبادرة الفردية على مفهوم الدولة التي ينبغي أن يقتصر دورها على حراسة الحدود من عدو خارجي وحماية ممتلكات الناس في الداخل، فالدولة وفقا لادم سميث هي فقط الدولة الحارسة. لا شأن للدولة في إدارة الاقتصاد والطبابة والتعليم والنقل ناهيك عن إدارة الشأن الأخلاقي والقيمي. كل هذا يترك للفرد ولآليات السوق. بل ذهب أبعد من ذلك، ينبغي التفكير دوما في سبل حماية الفرد من الدولة وتعسفها وتدخلها. الدولة من وجهة نظره هي في جوهرها كيان خانق للتطور والإبداع والابتكار.

واما في السرديات الاشتراكية فقد كانت الدولة هي الأم الراعية وهي الأب المقرر والذي له اليد الطولى في إدارة أمور المجتمع والفرد. الدولة ينبغي أن تبني إقتصادا، والدولة هي من تقرر شكل التعليم وهي من تستثمر في الصحة والطبابة والنقل، وتذهب السردية الشيوعية لما هو أكثر من ذلك، الدولة عليها أن تمنع أن يمتلك فرد للرأسمال مهما كان حجم هذا الرأسمال. لا ينبغي لفرد إنسان أن يعمل لدى فرد إنسان آخر. الشيوعية تقوم على محاربة مفهومي الاستغلال والاستلاب. الاستغلال والاستلاب يبدأن حينما تكون هناك جماعة يملك فرد فيها رأسمال في حين لا يملك الآخرون هذا الرأسمال، ويملكون فقط قوة عملهم اليدوية. هنا تنشأ علاقات الاستغلال والاستعباد والاستلاب.

في أزمة الكورونا، تشير المعطيات الأولية إلى درجة أكبر من الاستيعاب للوباء لدى تلك المجتمعات التي طورت نظما سياسية تقوم على دور مركزي للدولة وبيروقراطيتها في إدارة أمور المجتمع. الأرقام تشير إلى إدارة أفضل في التعامل مع الفيروس في الصين وروسيا وألمانيا وفرنسا والدول الاسكندينافية وهي دور تشترك جميعها في حجم أكبر للدولة وبيروقراطيتها في إدارة الشأن العام وفي إدارة أمور المجتمع صحيا وسياسيا واقتصاديا. ففي فرنسا وألمانيا وبرغم التاريخ الطويل والتراث المتراكم من السياسات الليبرالية والرأسمالية إلا أن الدولة بقيت حاضرة وكانت تدافع عن نفسها. في هاتين الدولتين تترك الدولة للقطاع الخاص كثيرا من أمور المجتمع لكنها لا تتخلى أبدا عن أدارة قطاع التعليم والصحة والنقل. في هذين البلدين ثمة رفض مطلق لوجود جامعات خاصة مثلا.

في النموذج الأمريكي والأنجلوساكسوني عموما الذي إليه ينتمي منظر السردية الرأسمالية آدم سميث يبدو هذا النموذج هو الأكثر تخبطا وإدارته هي الأكثر مأساوية. تجاهل الوباء في بدايته، ومحاولة استغلاله ضد الصين بدلا من التعاون معها في بداياته لكبح جماحه، وضعف استثمار الدولة الأمريكية في التعليم والثقافة والطبابة كلها عوامل جعلت السجل الأمريكي يتسم بالسوء في مواجهة الفيروس. نخطأ كثيرا إذا قرأنا الفشل الأمريكي في مواجهة الفيروس على أنه فشل لرئيس أمريكي أو لإدارة أمريكية جمهوريه، المسالة بالتأكيد أكثر تعقيدا، فالفشل هو فشل "لسردية كبرى" ولايدولوجيا ولمنظومة فكرية واقتصادية واجتماعية وقيمية ووجودية حكمت الولايات المتحدة منذ قرون.

قبل سنوات أنجزت الإدارة الأمريكية مشروع إنتاج الطائرة الشبح إف 35 والتي قدمت على أنها درة تاج الصناعة العسكرية الأمريكية. ما لا يعرفه كثيرون هو أن برنامج إنتاج الطائرة كلف دافع الضرائب الامريكي رقما فلكيا وصل إلى ترليون من الدولارات. الرقم كان استفزازيا لضخامتة ولتواضع المنتج الذي نتج عنه والذي يتعلق بقدرات الطائرة القتالية، كما دفع الكثيرون ليتحدثوا عن جبال من الفساد المالي المافيوي الذي رافق مشروع إنتاج الطائرة من بدايته وحيث يتمتع المجمع الصناعي الأمريكي كما المجمع النفطي بنفوذ سياسي وإعلامي وإيديولوجي هائل. فلكية الرقم دفعت أحد أعضاء الكونغرس من الديموقراطيين ليقول "يبدو أن الهدف من إنتاج الطائرة إف 35 هو يتمثل بالتحديد في إنفاق تريليون من الدولارات من جيوب دافعي الضرائب الأمريكيين". في النموذج الأمريكي الدولة ينبغي أن تنفق تريليون من الدولارات على برنامج تصنيع طائرة، ولكن في هذا النموذج من يغرق في النحيب والصراخ والعويل أذا تحدث أحد عن إنفاق ربع هذا المبلغ على تطوير المنظومة الطبية الأمريكية.

أردنيا، ما زالت صورة اللقاء التلفزيوني الذي جرى بتاريخ الثالث عشر من كانون الثاني من هذا العام على قناة المملكة حول أزمة القطاع الطبي في الأردن ماثلا في مخيلتي وفي ذاكرتي. فاللقاء الذي جمع بين إثنين من رواد نظرية انخراط الدولة في إدارة القطاع الصحي الأردني (الوزيرين السابقين ياسين الحسبان وغازي الزبن)، والذي ربما كان من المصادفة الظاهرية أن يسبق أزمة الكورونا بأسابيع قليلة ولكنه ربما لم يكن كذلك في منطق التاريخ وحركته. فصوت الرجلين في البرنامج التلفزيوني، وإن كان بمثابة صرخة للعقل الخبير العارف بأدق تفاصيل الحال الطبي والصحي، وبحال الخدمات الطبية في وطننا، فقد كان أيضا أشبه بصرخة من عقل متزن وقلب يرتجف على ضياع مشروع وطني استثمرت فيها الدولة الأردنية عرشا وحكومة ونخبا وشعبا المليارات من الدنانير، كما استثمرت فيه الكثير من الجهد والعرق في حقب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. والحال، فإن الرجلين ينتميان إلى جيل يؤمن بمركزية الدولة وبمسؤوليتها المحورية في إنتاج منظومة طبية وصحية ودوائية وبحثية فاعلة وناجعة، وإن كانا منفتحين على دور مهم للقطاع الخاص وللفرد وجهده واجتهاده ومبادراته.

في التهديد الحالي الذي يواجهه الأردن حاليا وهو تهديد وجودي بامتياز، لم يكن أصحاب البيزنس، ولا جحافل المستثمرين، ولا فيالق الكومبرادور ولا طوابير "عبدة الكراسي" هم الحماة والمقاتلون دفاعا عن الوطن والحياة والوجود، بل كان في المواجهة عنصران؛ طبيب وجندي عربي. الطبيب أراد البعض له أن تبيع عائلته كل ما لديها كي تقوم بتدريسه، وأراد له هذا البعض أن يعمل في ظروف غير إنسانية براتب لا يزيد عن بضع مئات من الدنانير، وكان هناك في خطوط المواجهة جندي يصل الليل بالنهار بعيدا عن كل وسائل الرفاهية لطالما أراد له هذا البعض أيضا أن لا يقبض من راتبه نهاية الشهر أكثر من الثلث أو الربع بعد أن يقوم بدفع كل أقساط السكن والطعام والشراب.

في معكرتنا الوجودية الحالية تقول الوقائع والحيثيات أن معظم سلاحنا في مواجهة الفايروس كانت من صنع الدولة وليس من صنع مبادرات الفرد البيزنسمان ولا ذلك الفرد المستثمر، فمن يقفون الآن في الخطوط الأولى يمثلون بقايا تراث دولة سادت ذات يوم كانت ترى في التعليم والطبابة والطرق والاقتصاد مجالات في صلب مهاما وعملها ورسالتها.
 
تابعو الأردن 24 على google news