(5) دروس من ميادين مصــر!
حسين الرواشدة
جو 24 : خمسة دروس على الاقل استأذن القارئ العزيز بتسجيلها على هامش حالة الاستقطاب التي تمر بها الدولة المصرية بين المحسوبين على نظام مرسي وحركة تمرد التي خرجت للمطالبة برحيله.
الدرس الاول هو ان حركة “التغيير” التي انطلقت قبل نحو عامين ونصف العام في عالمنا العربي لم تتوقف، صحيح أن بعض الثورات استقرت نسبياً بسبب ابرام توافقات بين النخب على صيغة الحكم (تونس مثلاً) لكن الصحيح ايضاً هو أن الثورة المصرية تحديداً جاءت “ناقصة” وغير مكتملة، سواء بسبب تعقيدات الحالة السياسية والاجتماعية، او بسبب مكانة مصر ودورها، او بسبب طبيعة الصراع في داخل مصر بين النخب السياسية او عليها اقليمياً ودولياً، وبالتالي فان عجلة التغيير ما زالت، وستبقى تدور، وربما تأخذ اشكالاً “مفزعة” كما حصل في الصورات الغربية التي استمرت لعشرات السنوات، وراح ضحيتها الملايين من البشر، لكن المؤكد ان “انعطافة” الشعوب العربية التي كانت نتاج “استحقاق” تاريخي ما تزال تسير في اتجاه واحد، وهو اصرار الشعوب على فرض ارادتها واسترداد شرعيتها والوصول الى “حقوقها” مهما كان الثمن.
الدرس الثاني هو ان “التوافق” بين النخب السياسية مهما كانت اختلافاتها عميقة، مسألة ضرورية للعبور “بالتغيير” نحو ملاذات اكثر استقراراً، واذا كانت تجربة “تونس” التي بدأت قبل الثورة بعشر سنوات وتمخضت عن “ميثاق” للحكم بين الفاعلين في المجال السياسي قد أسهمت في “تبريد” حدة الاختلافات والصراعات بين الفرقاء الذين افرزتهم صناديق الانتخاب، فان غياب هذا التوافق بين النخب المصرية عزز من حدة “الاستقطاب” وجرّ المجتمع الى ما نشاهده من مواجهات في الميادين.
والمفيد هنا هو ان “مرحلة” ما بعد الثورات تحتاج الى “توافق” اجتماعي وسياسي، والى مشاركة أغلبية القوى السياسية المعتبرة “لحمل” تركة الحكم والمسؤولية، وشق طريق آمن نحو الانتقال للديمقراطية، وفي غياب هذا التوافق فان دوامة الصراع لن تتوقف عند “ثورة ثانية” او ثالثة ورابعة، وانما ستفتح المجال امام صراع طويل بين القوى السياسية والشعبية ولن تنفع في وضع حد له “اصوات الصناديق” وما تفرزه من شرعيات قانونية، إذْ سيكون بوسع كل فريق ان يطالب بنزع هذه الشرعية ما دام انه يستطيع ان يجيش انصاره للخروج بالملايين الى الميادين.
اما الدرس الثالث فهو ان سطوة الاعلام وقدرته على “قلب” الافكار وتغيير الحقائق وتجييش الرأي العام أصبحت واقعاً لا يمكن استثناؤه عند فهم ما يحدث، فقد بدأت الصراعات والانقسامات في مصر مثلاً على شاشات الاعلام وصفحات الصحف، ثم انتقلت بسرعة الى المجتمع، ورغم ان وزن بعض القوى شعبياً متواضعاً جداً، الا ان “سيطرتها” على المنابر الاعلامية أتاح لها المجال واسعاً للتأثير وتغيير الصورة واقناع الناس بوقائع مبالغ فيها.. وربما ليست صحيحة احياناً.
الدرس الرابع هو ان الحكم في عالمنا العربي، ما زال هدفاً وليس مجرد وسيلة او تجربة، وربما يعود ذلك الفهم لتراث طويل استند لمقولات فقهاء وعلماء وخلفاء حول “السلطات” والدولة التي تملك “العصا” والخليفة الذي بيده مفتاح كل شيء؛ ما وّلد لى الانسان العربي – مهما كانت اتجاهاته – فكرة ان من لا يحكم لا يستطيع ان يفعل شيئاً، وان “مفاتيح السلطة” هي الشرط الاساس لدخول الجنة في الدنيا والاخرة، واعتقد ان هذه الفكرة خاطئة وغير دقيقة، صحيح ان الوصول للحكم هدف مشروع ادارة شؤون الناس واقامة الدولة العادلة، لكن الصحيح ايضاً هو انه مجرد “وسيلة” لا غاية، وانه ليس “المفتاح” الوحيد للتغيير والاصلاح وخدمة الناس، ذلك ان المجتمع في التجربة العربية الاسلامية هو الذي حمل “مشروع النهضة” بعد ان تراضت الدولة (السلطة) وتراجعت، وحسبنا ان نشير الى موضوع “الوقف” الذي كان الذراع الطولى للتنمية في عالمنا العربي والاسلامي على امتداد قرون، إذْ كان “الواقفون” يعملون من داخل المجتمع، لا من داخل السلطة، وإذْ كانت الدول مشغولة بالفتوحات والحروب فيما تفرغ “المجتمع” بقواه المختلفة للعمل وتمكين الناس من الحياة الكريمة.
اما الدرس الاخير فهو ان مجتمعاتنا قد تغيرت حقاً، وبالتالي فان محاولة اعادتها الى “بيت الطاعة” أصبح من المستحيلات، والتغيير هنا لا يتعلق فقط باستعادة الوعي نحو الحقوق التي سلبت منها على امتداد قرون طويلة، او عدوى الثورات والتحولات التي انتقلت اليها وولدت لديها “حالة ثورية” يصعب محاصرتها، وانما يستند هذا التغيير الى “ميراث” تاريخي طويل جداً، شكل “خزاناً” من التجارب التي يحاول الناس اليوم امتثالها واعادة هضمها من جديد.. وحسب الذين يبحثون عن “مصادر” لفهم ما حدث في عالمنا العربي اليوم ان يقرؤوا تجارب “النهوض” التي مرّت بها امتنا، ومحاولات “التحضير” التي انتجت التدين في عصور مضت، فالشعوب العربية ليست طارئة على “التغيير” ولكنها تستأنف هذا “التغيير” وتستعيده وتحاول ان تجدده، لكن في سياقات جديدة ووفق معطيات مختلفة.. تتناسب مع “موروثها” رغم ما فيه من اخطاء، ومع العصر رغم ما فيه من تعقيدات ودروب مجهولة. (الدستور)
الدرس الاول هو ان حركة “التغيير” التي انطلقت قبل نحو عامين ونصف العام في عالمنا العربي لم تتوقف، صحيح أن بعض الثورات استقرت نسبياً بسبب ابرام توافقات بين النخب على صيغة الحكم (تونس مثلاً) لكن الصحيح ايضاً هو أن الثورة المصرية تحديداً جاءت “ناقصة” وغير مكتملة، سواء بسبب تعقيدات الحالة السياسية والاجتماعية، او بسبب مكانة مصر ودورها، او بسبب طبيعة الصراع في داخل مصر بين النخب السياسية او عليها اقليمياً ودولياً، وبالتالي فان عجلة التغيير ما زالت، وستبقى تدور، وربما تأخذ اشكالاً “مفزعة” كما حصل في الصورات الغربية التي استمرت لعشرات السنوات، وراح ضحيتها الملايين من البشر، لكن المؤكد ان “انعطافة” الشعوب العربية التي كانت نتاج “استحقاق” تاريخي ما تزال تسير في اتجاه واحد، وهو اصرار الشعوب على فرض ارادتها واسترداد شرعيتها والوصول الى “حقوقها” مهما كان الثمن.
الدرس الثاني هو ان “التوافق” بين النخب السياسية مهما كانت اختلافاتها عميقة، مسألة ضرورية للعبور “بالتغيير” نحو ملاذات اكثر استقراراً، واذا كانت تجربة “تونس” التي بدأت قبل الثورة بعشر سنوات وتمخضت عن “ميثاق” للحكم بين الفاعلين في المجال السياسي قد أسهمت في “تبريد” حدة الاختلافات والصراعات بين الفرقاء الذين افرزتهم صناديق الانتخاب، فان غياب هذا التوافق بين النخب المصرية عزز من حدة “الاستقطاب” وجرّ المجتمع الى ما نشاهده من مواجهات في الميادين.
والمفيد هنا هو ان “مرحلة” ما بعد الثورات تحتاج الى “توافق” اجتماعي وسياسي، والى مشاركة أغلبية القوى السياسية المعتبرة “لحمل” تركة الحكم والمسؤولية، وشق طريق آمن نحو الانتقال للديمقراطية، وفي غياب هذا التوافق فان دوامة الصراع لن تتوقف عند “ثورة ثانية” او ثالثة ورابعة، وانما ستفتح المجال امام صراع طويل بين القوى السياسية والشعبية ولن تنفع في وضع حد له “اصوات الصناديق” وما تفرزه من شرعيات قانونية، إذْ سيكون بوسع كل فريق ان يطالب بنزع هذه الشرعية ما دام انه يستطيع ان يجيش انصاره للخروج بالملايين الى الميادين.
اما الدرس الثالث فهو ان سطوة الاعلام وقدرته على “قلب” الافكار وتغيير الحقائق وتجييش الرأي العام أصبحت واقعاً لا يمكن استثناؤه عند فهم ما يحدث، فقد بدأت الصراعات والانقسامات في مصر مثلاً على شاشات الاعلام وصفحات الصحف، ثم انتقلت بسرعة الى المجتمع، ورغم ان وزن بعض القوى شعبياً متواضعاً جداً، الا ان “سيطرتها” على المنابر الاعلامية أتاح لها المجال واسعاً للتأثير وتغيير الصورة واقناع الناس بوقائع مبالغ فيها.. وربما ليست صحيحة احياناً.
الدرس الرابع هو ان الحكم في عالمنا العربي، ما زال هدفاً وليس مجرد وسيلة او تجربة، وربما يعود ذلك الفهم لتراث طويل استند لمقولات فقهاء وعلماء وخلفاء حول “السلطات” والدولة التي تملك “العصا” والخليفة الذي بيده مفتاح كل شيء؛ ما وّلد لى الانسان العربي – مهما كانت اتجاهاته – فكرة ان من لا يحكم لا يستطيع ان يفعل شيئاً، وان “مفاتيح السلطة” هي الشرط الاساس لدخول الجنة في الدنيا والاخرة، واعتقد ان هذه الفكرة خاطئة وغير دقيقة، صحيح ان الوصول للحكم هدف مشروع ادارة شؤون الناس واقامة الدولة العادلة، لكن الصحيح ايضاً هو انه مجرد “وسيلة” لا غاية، وانه ليس “المفتاح” الوحيد للتغيير والاصلاح وخدمة الناس، ذلك ان المجتمع في التجربة العربية الاسلامية هو الذي حمل “مشروع النهضة” بعد ان تراضت الدولة (السلطة) وتراجعت، وحسبنا ان نشير الى موضوع “الوقف” الذي كان الذراع الطولى للتنمية في عالمنا العربي والاسلامي على امتداد قرون، إذْ كان “الواقفون” يعملون من داخل المجتمع، لا من داخل السلطة، وإذْ كانت الدول مشغولة بالفتوحات والحروب فيما تفرغ “المجتمع” بقواه المختلفة للعمل وتمكين الناس من الحياة الكريمة.
اما الدرس الاخير فهو ان مجتمعاتنا قد تغيرت حقاً، وبالتالي فان محاولة اعادتها الى “بيت الطاعة” أصبح من المستحيلات، والتغيير هنا لا يتعلق فقط باستعادة الوعي نحو الحقوق التي سلبت منها على امتداد قرون طويلة، او عدوى الثورات والتحولات التي انتقلت اليها وولدت لديها “حالة ثورية” يصعب محاصرتها، وانما يستند هذا التغيير الى “ميراث” تاريخي طويل جداً، شكل “خزاناً” من التجارب التي يحاول الناس اليوم امتثالها واعادة هضمها من جديد.. وحسب الذين يبحثون عن “مصادر” لفهم ما حدث في عالمنا العربي اليوم ان يقرؤوا تجارب “النهوض” التي مرّت بها امتنا، ومحاولات “التحضير” التي انتجت التدين في عصور مضت، فالشعوب العربية ليست طارئة على “التغيير” ولكنها تستأنف هذا “التغيير” وتستعيده وتحاول ان تجدده، لكن في سياقات جديدة ووفق معطيات مختلفة.. تتناسب مع “موروثها” رغم ما فيه من اخطاء، ومع العصر رغم ما فيه من تعقيدات ودروب مجهولة. (الدستور)