jo24_banner
jo24_banner

لمصلحة من تكسير الفكر الحر؟

رنا الصباغ
جو 24 : يحق للأردنيين التساؤل عن إصرار صانعي القرار على استغباء الشعب الأردني وتغييبه، عبر ترويج أكذوبة الانتقال صوب الديمقراطية، في ضوء عملية مماطلة مركبة، أجهضت محاولة إطلاق أول حزب إصلاحي تقدمي ذي لون ديمقراطي اجتماعي تعدّدي قابل للتمدد.
هذه التجربة المرّة والأليمة التي عاشتها شخصيات وطنية معتبرة -تمثل طيفا واسعا في المجتمع- بعد عامين من الجهاد والتحضير لترخيص حزب "التجمع الحر"، تختزل سياسة المراوغة والدوران في حلقات مفرغة.
بدأت خطوات الاغتيال بتأخير الردود على طلب الترخيص، وطلبات تقوم على إجراءات بيروقراطية لتوضيح بيانات أعضاء مؤسسين؛ ثم انتهت بضغوط غير معلنة للانسحاب من لائحة المؤسسين باتجاه تفشيل طلب الترخيص، على قاعدة انخفاض العدد عن 500، بحسب مؤسسين.
مسرحية "وهم الإصلاح السياسي"، وفزّاعة تهديد أمن الأردن ونظامه السياسي، باتتا مكشوفتين بعد اغتيال حزب التجمع الحر، الذي يقود لجنته التوجيهية د. أحمد خلف المساعدة - وزير أسبق ذو توجه إصلاحي، وسفير سابق، ونجل سياسي بعثي رصين- إلى جانب ثلة من النقابيين، ورؤساء بلديات ووزراء ونواب وأعيان سابقين.
معضلة د. المساعدة ورفاقه تسدل الستارة على آخر فصول المسرحية العبثية، بعد أكثر من عقدين على وعود الإصلاح السياسي، وقرار الملك بتسريعه إثر بزوغ الربيع الأردني. كما تعكس إصرارا على تحريم ولادة أي حزب خارج حدود اللعبة المرسومة، قد يوفر طريقا ثالثة للعديد من الأردنيين التائهين بين ثنائية حزب "الدولة" و"جماعة الإخوان".
واضح أن هذا العقل -شأنه شأن سائر قوى الشد العكسي المنهمكة في حماية نفوذها ومصالحها، عبر إدامة سياسة الولاءات الطبقية والجهوية الضيقة- يستفيد من بقاء التيار الإسلامي المحافظ كقوة أساسية على الساحة، لتخويف الشعب من البديل الديمقراطي القادر على التحول إلى قوة سياسية منظمة. ولا بد أنه وجد في أدبيات هذا البديل وطموحه ما يصطدم مع توجهات أصحاب النفوذ في دولة تتغنّى بالاعتدال والانفتاح، كما تلعب على وتر خوف الأردنيين من المطالبة بالكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، بعد مآلات تجارب دول التحول العربي: تونس، ومصر، وسورية، وليبيا، واليمن.
بعد إجهاض هذه التجربة بتطويع القانون، سيصعب إيجاد مكان لحزب مشابه في مشهدنا السياسي الكئيب، يقف على يسار الوسط، وغالبية مؤسسّيه من فئة الشباب (70 % من المجتمع)؛ حزب يضم
د. المساعدة، وصخر دودين نجل السياسي العتيق مروان دودين، ورئيس بلدية الطفيلة خالد حنيفات، وجرّاح القلب أحمد عربيات، والناشطة رجاء الحياري، والفنان زهير النوباني، والنائب الأسبق محمد أرسلان، والسفير عمر الرفاعي نجل رئيس الوزراء الراحل عبدالمنعم الرفاعي، وخبير الطب الشرعي د. مؤمن الحديدي، نجل النقابي الراحل سليمان الحديدي.
الرسالة التي وصلت: لا مكان لحزب يستند في رؤيته الاستراتيجية -بحسب وثيقته- إلى "تكريس سلطة الشعب الحر وصولا إلى الدولة المدنية وركنها الأساس المواطنة، المؤسسة على الدستور وسيادة القانون والمصونة بالاستفتاء، المحصنة بمنظومة نزاهة رشيدة، المعززة بقيم تنوير تسودها بيئة اقتصادية مبنية على النظام الحر المختلط، وضمان تكافؤ الفرص والتعليم النوعي، والمتكاملة مع عمقها العربي والإسلامي، والمتفاعلة مع الحضارة العالمية، والمنسجمة مع المواثيق والمعايير الدولية لحقوق الإنسان".
أما المطلوب، فهو مواصلة المراوحة حول الأمر الواقع، لحماية المنافع والمكتسبات الضيقة التي لا تصون الوطن، ولا تخدم الملك، وتسد الطريق على أي بديل سياسي تنويري وعصري للإخوان.
هذه قصة نهاية مشروع حزب "التجمع الحر".
ورقة النعي جاءت من وزارة الداخلية؛ الجهة المسؤولة عن تطبيق قانون الأحزاب السياسية رقم 16 لسنة 2012. إذ ورد في كتاب وقعه الوزير حسين هزاع المجالي يوم 24/6/2013، وحصلت كاتبة المقال على نسخة منه: ترفض الوزارة طلب الحزب "وتعتبره ملغيا حكما"، لأن عدد الأعضاء المؤسسين انخفض إلى 498 وليس 500 بحدّه الأدنى "كنتيجة لانسحاب بعضهم".
لكن لا أحد يعرف خبايا تضييع النصاب خلال يومين من الجهد الرسمي المنظم؛ عبر اتصالات مع أعضاء غالبيتهم انضموا في المرحلة الأخيرة، لحضّهم على الانسحاب من باب الحفاظ على موقع رسمي، أو الرغبة في خوض انتخابات نقابية او بلدية مقبلة، بحسب أعضاء.
في البدء، صوّب أعضاء الحزب الملاحظات الأولية من لجنة الأحزاب؛ غالبيتها تتعلق باستصدار شهادات عدم محكومية لبعض الأعضاء، وتأكيد الرقم الوطني، أو بأماكن الإقامة، أو عدم وضوح صورة الهوية... وأيضا توضيح مصادر التمويل والصرف بدون أي تحفظ يذكر على "أدبيات الحزب". وأخيرا، لجأ المسؤولون إلى إجهاض الحزب قانونيا من باب تخفيض عدد المؤسسين دون الـ500 عضو.
هذا المآل صدم نواة المؤسسين، لاسيما بعد أن أتحفهم أعضاء لجنة الأحزاب بأن برنامج الحزب وهيكله التنظيمي الذي يحاكي تجارب أحزاب مماثلة في دول متقدمة مثل بريطانيا، كان من أفضل الأدبيات التي مرت عليهم منذ بدايات ترخيص 23 حزبا.
الاتصالات والضغوط الرسمية التي مارستها الجهات المتنفذة، بدأت عشية إعلان قرار الوزارة، بعد مهلة الشهر. وقعت في الكورة مسقط رأس د. المساعدة، ثم انتقلت إلى عمان والزرقاء والكرك والطفيلة والبلقاء، بحسب أعضاء.
د. المساعدة يرفض التعليق على ما حصل.
وزارة الداخلية –على لسان مدير الشؤون السياسية وهيئات المجتمع المدني، المحافظ سعد شهاب– تنفي وجود أي موقف مسبق حيال مؤسسي هذا الحزب. وبعد أن وصف د. المساعدة بأنه "شخص محترم"، والحزب بأنه "وطني"، قال شهاب: "أتحدّى أن يكون واحد من جماعتنا حكى مع أعضائه". وبحسب سجلات الداخلية، رخص 37 حزبا منذ إعادة الشرعية إلى التنظيمات السياسية العام 1992، ثم انخفض العدد إلى 14 بعد تعديل القانون العام 2012، قبل أن يرتفع أخيرا إلى 26 حزباً.
الأعضاء المؤسسون سيجتمعون خلال أيام لاتخاذ قرار: إما الطعن أمام محكمة العدل العليا من باب المناكفة، لأنهم يتوقعون قرارها مسبقا؛ أو تقديم طلب جديد باسم مختلف؛ أو الرجوع إلى مشروع تيار سياسي لا يستطيع التأثير على مجريات الأحداث، كما كان الوضع قبل فكرة التحول إلى حزب.
مؤسسو الحزب تفاجأوا بأبعاد الرسالة التي تريد السلطة التنفيذية إيصالها للجميع: لا مكان لمشروع سياسي تقدمي جدي، تتحدث أول عشر صفحات من نظامه الأساسي عن ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية والقانونية، وحرية الفرد بدون أن يتعارض ذلك مع حقوق الآخرين، وكسر الاحتكار في القطاعين العام والخاص. مشروع طموح لحزب ينشد المساواة بين جميع المواطنين، بغض النظر عن مرجعياتهم الجهوية أو الدينية أو الفكرية، مع التمسك بالمساواة في الحقوق المدنية والسياسية، ورفض أي تمييز قائم على التحيز أو المحاصصة أو المنافعية. ويؤكد التمسك بالهوية الأردنية الجمعية بدون إقصائية؛ معنية بالأساس بكينونة الوطن وأمنه، بموازاة حالة نضالية من أجل فلسطين. حزب ينادي بتكريس مبدأ التداول السلمي لسلطة مصدرها الشعب، وأن تتشكل الحكومات على أسس حزبية برلمانية.
إجهاض هذه التجربة يشكل لطمة في وجه كل أردني مخلص يحب وطنه، ويؤمن بشعار الحزب الرسمي؛ حكمة الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب: ".. وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وهو إجهاض يعكس أيضا ازدواجية الأداء. فالخطاب الرسمي يتحدث عن نجاح الأنموذج الأردني في الانتقال الديمقراطي -وسط مسرح إقليمي متحول- عبر انتخابات نزيهة بإشراف هيئة مستقلة، لضمان ولادة أول حكومة برلمانية في عهد الملك عبدالله الثاني. لكن السلطة تتحكم بالمخرجات من خلال ترويض أسس اللعبة عبر قانون انتخاب متخلف، أفرز 150 زعيما –غالبيتهم بلا برنامج سياسي واضح- غير قادرين على حمل حلم التغيير.
ثم جاءت ضربة تداول المعلومات، عبر حجب 292 موقعا إلكترونيا مخالفا، ما وضع الأردن ضمن لائحة دول معادية للإنترنت، مثل السعودية وكوريا الشمالية.
واليوم، ثمّة إصرار على عقد انتخابات بلدية وفق قانون متخلف، سيفضي إلى مزيد من التناحر، ويغذّي العنف المتنامي وضياع هيبة الدولة، مع تعمق أزمة الثقة في ظروف اقتصادية طاحنة وتحديات إقليمية مرعبة.
الى أين تسيرون بالبلد؟ (الغد)
rana.sabbagh@alghad.jo
تابعو الأردن 24 على google news