ضد قرار إعادة القصاص بحبل المشنقة!
رنا الصباغ
جو 24 : شكل قرار الأردن الأخير بوقف تجميد عقوبة الإعدام الساري منذ ثماني سنوات، صدمة لنشطاء وحقوقيين وساسة، رأوا فيه تراجعا آخر على مسار حقوق الإنسان، وسط إقليم يجنح صوب الانغلاق والتشدد وإقصاء الآخر.
بالطبع، يأتي القرار في سياق توجه عام، مدعوم شعبياً وإعلامياً وبرلمانياً، لفرض سلطة القانون، ومواجهة تحدي الحركات الإرهابية والفكر التكفيري عابر الحدود.
لكن تنفيذ عقوبة الإعدام بطريقة مفاجئة يوم الأحد الماضي، بحق 11 محكوماً من أصل 122 في السجون الأردنية، بعد تعليقها منذ العام 2007 بناء على ضغوط الدول الغربية المانحة، أجج شعوراً بالأسى لدى الأقلية التي تعارض في الأصل عقوبة الإعدام في الأردن والعالم، لأن حقوق الانسان منظومة عالمية وقيمية لا يجوز تجزئتها حسب الحاجة.
هذه الأقلية تقف ضد مبدأ الإعدام، لأن هناك إمكانية حصول أخطاء في إصدار الأحكام، كون البشر غير معصومين عن الخطيئة مهما علا شأنهم. ومثال على ذلك ما حدث مع أبي قتادة، عندما تمت إعادة محاكمته بتهمة الإرهاب، وثبتت براءته من عقوبة الإعدام. كما أن معارضي الإعدام يعتقدون أن ثمة أحكاما، كالمؤبد والأشغال الشاقة مدى الحياة، أشد قسوة على المجرمين من الإعدام شنقا بلف الحبل حول العنق، مثلما حصل في الأردن يوم الأحد الماضي، بتنفيذ وجبة الإعدامات الأكبر في تاريخ الأردن الحديث (في السابق، كان يتم شنق ثلاثة أشخاص كحد أعلى في كل دفعة).
فتح غرفة الإعدامات من دون إعلان رسمي عن ذلك، وبعد تجميد عقوبة الاعدام في بعض الجرائم وتعليق تطبيقها في جرائم القتل العمد والاغتصاب والأعمال الارهابية منذ العام 2007 -ووقتها أيضا من دون إعلان رسمي- يمس صدقية الخطاب الرسمي الإصلاحي الذي يروج لدولة المؤسسات والقانون. كما يضرب صورة الأردن في الخارج والداخل كدولة وسطية معتدلة، تنشد الإصلاح المتدرج الآمن في إقليم ملتهب.
المشكلة الأكبر أن قرار العودة عن تجميد عقوبة الإعدام لم يشرك فيه المواطن دافع الضريبة. إذ لم يتم فتح حوار عام حول فوائد ومضار الإعدام، بعد أن أغلقت غالبية وسائل الإعلام التقليدية أبوابها أمام الرأي الآخر، وانتقل السجال إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تسمع الرأي المؤيد والمخالف.
أدرك مسبقا أن غالبية المسؤولين والنواب لا تريد سماع هكذا مواقف رددها عشرات الساسة والنشطاء ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية والمحلية والدولية، قبل أن يصدر بيان بعثة الاتحاد الاوروبي والدول الأوروبية الأعضاء، إضافة إلى النرويج وسويسرا، يوم أمس، بشجب تنفيذ الإعدامات، واعتبار القرار خطوة إلى الوراء، ومطالبة الأردن بإعادة تجميد عقوبة الإعدام تمهيدا لإلغائها. وأدرك أيضا أن مفهوم الإعدام في رأي كثيرين هو تنفيذ لشرع الله، والسبيل إلى القصاص من المجرمين وحماية حقوق الضحايا ومنع الجريمة. كما أن شنق المحكومين في جرائم محددة، هي طريقة فعالة برأيهم للحد من ردود الفعل لذوي المجني عليهم، ووقف عمليات الترحيل القسري (الجلوة) لعائلات وذوي الجناة، عملاً بأحكام القانون العشائري. وأعلم أن هناك الكثير ممن يعتقدون أن العودة إلى أحكام الإعدام ستحمي السلم المجتمعي، وهي ضرورة لفرض سيادة القانون واستعادة هيبة الدولة، ومحاربة الجريمة التي شهدت ارتفاعا ملحوظا خلال السنوات الثماني الماضية.
لكنني أخشى أن يأتي اليوم الذي يطالب فيه بعض من يدعم مبدأ الإعدامات استنادا إلى أنها إنفاذ للشريعة الإسلامية، بتطبيق كافة أحكام هذه المنظومة، بحيث تتم إضافة قطع يد السارق ورجم الزناة، وتفعيل عقوبة الجلد في الساحات العامة.
لكن من الضروري أن تخرج الحكومة برواية مقنعة للرأي العام، تظهر نوعية الدراسات التي استندت إليها بأن العودة إلى تنفيذ عقوبات الإعدام ستقلل من الجريمة. فالمسؤول الوحيد الذي استبق هذا القرار كان وزير الداخلية حسين المجالي، قبل أسابيع، عندما صرح أن الجهات المختصة تدرس العودة إلى تنفيذ أحكام الإعدام، قبل أن يستفيق الأردنيون على أخبار تنفيذ الإعدامات قبل ثلاثة أيام.
ولا يكفي الاتكاء على استطلاع رأي أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، أيدت غالبية المستجوبين فيه تطبيق الإعدام، والإبقاء على العقوبة في القانون لردع الجريمة في الأردن. كما لا تكفي تصريحات نقابية وحزبية مؤيدة لا تتعدى أصابع اليد. فلا بد من حوار ذكي يخلق إجماعاً وطنياً، ويسمح للرأي المعارض بالتكلم بدلا من الاعتماد على أسلوب التخويف والتلقين والتخوين، واستمرار التعامل مع المواطن وكأنه تابع.
فالجريمة في الاردن بصراحة لم تتناسل بسبب توقيف تنفيذ عقوبة الاعدام، بل زادت بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وتردي الخدمات المعيشية التي توفرها الدولة، وتنامي البطالة وتآكل المداخيل وتفاقم الفجوة الطبقية، وغياب الجدية في محاربة الفساد والمفسدين، وضعف تنفيذ الإصلاحات السياسية الجوهرية، وغياب العدالة الاجتماعية، وتراجع دور البرلمان الرقابي والتشريعي.
والجريمة زادت بسبب تحديات الحداثة والعولمة، وموجات النزوح القسري نتيجة غياب العدالة في توزيع مكتسبات التنمية، كما بسبب الواسطة والمحسوبية والتراخي الرسمي في إنفاذ مبدأ سيادة القانون، بدءا بمخالفات السير البسيطة مروراً بالاعتداء على الأرصفة والطرق والممتلكات العامة والخاصة، وانتهاء بالجريمة بمختلف درجاتها.
من الضروري اليوم أن يقرر الأردنيون شكل المجتمع الذي يريدون العيش فيه. فلا نستطيع أن نتصرف يوماً بأننا نريد أن نكون جزءاً من العالم الحديث ومن المستقبل، ونريد في يوم آخر أن نكون دولة منغلقة تقارن نفسها بالماضي، وبدول عربية أخرى أقل تسامحا وانفتاحا، تسكت الشعب بهبات المال مقابل السكوت عن مطالب إصلاحية وحلم بحياة أفضل. وبالتأكيد، سترد الغالبية، وأنا واحدة منها، أنها تريد العيش في بلد آمن ومستقر، يؤمن بدولة قائمة على أسس المواطنة والحاكمية الرشيدة ومؤسسات مستقلة وإعلام يكشف الحقيقة، ويوفر المعلومات التي هي حق لدافعي الضرائب.
لكن لا أدري ما إذا كانت الغالبية تريد العيش في دولة منفتحة تتماشى مع القرن الواحد والعشرين أم منغلقة. لذلك، ربما آن الأوان لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية أن يستطلع آراء الناس حول شكل الأردن الذي نريد.
لا بد أيضا من أن يتسع صدر ما قد يصور لنا على أنه الغالبية المؤيدة لقرار تنفيذ الإعدام، لتحمل الآراء المخالفة، وإلاّ أصبحنا جميعاً مخلوقات تشبه بعضها بعضا، تعيش في دولة أحادية اللون لا تؤمن بالتعددية وبحق الاختلاف. فسهام الانتقادات طالت كل رأي مخالف، ولم يسلم منها حتى سفراء دول مانحة قرروا انتقاد القرار علانية، لأن ذلك موقف بلادهم من عقوبة الإعدام في أي دولة في العالم.
أدرك أن الحكومة قادرة على احتواء ردات فعل الغرب، خاصة أن حساسية الأردن لمسائل متعلقة بحقوق الإنسان وتراجع حرية الرأي والتعبير، لم تعد كما كانت عليه، وأن أميركا وأوروبا تقدر دور الأردن في بناء تحالف دولي عربي إسلامي لمحاربة الإرهاب والفكر المتطرف العابر للقارات، وهي مستعدة للتغاضي عن الكثير من التراجعات. لكن لنتذكر بأن خروج الأردن قوياً ومستقراً من انزلاقات "الربيع العربي"، مدعاة للتفكير بمنح مزيد من الحريات والخطوات الإصلاحية، بدلاً من العودة الى الوراء.
(الغد)
بالطبع، يأتي القرار في سياق توجه عام، مدعوم شعبياً وإعلامياً وبرلمانياً، لفرض سلطة القانون، ومواجهة تحدي الحركات الإرهابية والفكر التكفيري عابر الحدود.
لكن تنفيذ عقوبة الإعدام بطريقة مفاجئة يوم الأحد الماضي، بحق 11 محكوماً من أصل 122 في السجون الأردنية، بعد تعليقها منذ العام 2007 بناء على ضغوط الدول الغربية المانحة، أجج شعوراً بالأسى لدى الأقلية التي تعارض في الأصل عقوبة الإعدام في الأردن والعالم، لأن حقوق الانسان منظومة عالمية وقيمية لا يجوز تجزئتها حسب الحاجة.
هذه الأقلية تقف ضد مبدأ الإعدام، لأن هناك إمكانية حصول أخطاء في إصدار الأحكام، كون البشر غير معصومين عن الخطيئة مهما علا شأنهم. ومثال على ذلك ما حدث مع أبي قتادة، عندما تمت إعادة محاكمته بتهمة الإرهاب، وثبتت براءته من عقوبة الإعدام. كما أن معارضي الإعدام يعتقدون أن ثمة أحكاما، كالمؤبد والأشغال الشاقة مدى الحياة، أشد قسوة على المجرمين من الإعدام شنقا بلف الحبل حول العنق، مثلما حصل في الأردن يوم الأحد الماضي، بتنفيذ وجبة الإعدامات الأكبر في تاريخ الأردن الحديث (في السابق، كان يتم شنق ثلاثة أشخاص كحد أعلى في كل دفعة).
فتح غرفة الإعدامات من دون إعلان رسمي عن ذلك، وبعد تجميد عقوبة الاعدام في بعض الجرائم وتعليق تطبيقها في جرائم القتل العمد والاغتصاب والأعمال الارهابية منذ العام 2007 -ووقتها أيضا من دون إعلان رسمي- يمس صدقية الخطاب الرسمي الإصلاحي الذي يروج لدولة المؤسسات والقانون. كما يضرب صورة الأردن في الخارج والداخل كدولة وسطية معتدلة، تنشد الإصلاح المتدرج الآمن في إقليم ملتهب.
المشكلة الأكبر أن قرار العودة عن تجميد عقوبة الإعدام لم يشرك فيه المواطن دافع الضريبة. إذ لم يتم فتح حوار عام حول فوائد ومضار الإعدام، بعد أن أغلقت غالبية وسائل الإعلام التقليدية أبوابها أمام الرأي الآخر، وانتقل السجال إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تسمع الرأي المؤيد والمخالف.
أدرك مسبقا أن غالبية المسؤولين والنواب لا تريد سماع هكذا مواقف رددها عشرات الساسة والنشطاء ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية والمحلية والدولية، قبل أن يصدر بيان بعثة الاتحاد الاوروبي والدول الأوروبية الأعضاء، إضافة إلى النرويج وسويسرا، يوم أمس، بشجب تنفيذ الإعدامات، واعتبار القرار خطوة إلى الوراء، ومطالبة الأردن بإعادة تجميد عقوبة الإعدام تمهيدا لإلغائها. وأدرك أيضا أن مفهوم الإعدام في رأي كثيرين هو تنفيذ لشرع الله، والسبيل إلى القصاص من المجرمين وحماية حقوق الضحايا ومنع الجريمة. كما أن شنق المحكومين في جرائم محددة، هي طريقة فعالة برأيهم للحد من ردود الفعل لذوي المجني عليهم، ووقف عمليات الترحيل القسري (الجلوة) لعائلات وذوي الجناة، عملاً بأحكام القانون العشائري. وأعلم أن هناك الكثير ممن يعتقدون أن العودة إلى أحكام الإعدام ستحمي السلم المجتمعي، وهي ضرورة لفرض سيادة القانون واستعادة هيبة الدولة، ومحاربة الجريمة التي شهدت ارتفاعا ملحوظا خلال السنوات الثماني الماضية.
لكنني أخشى أن يأتي اليوم الذي يطالب فيه بعض من يدعم مبدأ الإعدامات استنادا إلى أنها إنفاذ للشريعة الإسلامية، بتطبيق كافة أحكام هذه المنظومة، بحيث تتم إضافة قطع يد السارق ورجم الزناة، وتفعيل عقوبة الجلد في الساحات العامة.
لكن من الضروري أن تخرج الحكومة برواية مقنعة للرأي العام، تظهر نوعية الدراسات التي استندت إليها بأن العودة إلى تنفيذ عقوبات الإعدام ستقلل من الجريمة. فالمسؤول الوحيد الذي استبق هذا القرار كان وزير الداخلية حسين المجالي، قبل أسابيع، عندما صرح أن الجهات المختصة تدرس العودة إلى تنفيذ أحكام الإعدام، قبل أن يستفيق الأردنيون على أخبار تنفيذ الإعدامات قبل ثلاثة أيام.
ولا يكفي الاتكاء على استطلاع رأي أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، أيدت غالبية المستجوبين فيه تطبيق الإعدام، والإبقاء على العقوبة في القانون لردع الجريمة في الأردن. كما لا تكفي تصريحات نقابية وحزبية مؤيدة لا تتعدى أصابع اليد. فلا بد من حوار ذكي يخلق إجماعاً وطنياً، ويسمح للرأي المعارض بالتكلم بدلا من الاعتماد على أسلوب التخويف والتلقين والتخوين، واستمرار التعامل مع المواطن وكأنه تابع.
فالجريمة في الاردن بصراحة لم تتناسل بسبب توقيف تنفيذ عقوبة الاعدام، بل زادت بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وتردي الخدمات المعيشية التي توفرها الدولة، وتنامي البطالة وتآكل المداخيل وتفاقم الفجوة الطبقية، وغياب الجدية في محاربة الفساد والمفسدين، وضعف تنفيذ الإصلاحات السياسية الجوهرية، وغياب العدالة الاجتماعية، وتراجع دور البرلمان الرقابي والتشريعي.
والجريمة زادت بسبب تحديات الحداثة والعولمة، وموجات النزوح القسري نتيجة غياب العدالة في توزيع مكتسبات التنمية، كما بسبب الواسطة والمحسوبية والتراخي الرسمي في إنفاذ مبدأ سيادة القانون، بدءا بمخالفات السير البسيطة مروراً بالاعتداء على الأرصفة والطرق والممتلكات العامة والخاصة، وانتهاء بالجريمة بمختلف درجاتها.
من الضروري اليوم أن يقرر الأردنيون شكل المجتمع الذي يريدون العيش فيه. فلا نستطيع أن نتصرف يوماً بأننا نريد أن نكون جزءاً من العالم الحديث ومن المستقبل، ونريد في يوم آخر أن نكون دولة منغلقة تقارن نفسها بالماضي، وبدول عربية أخرى أقل تسامحا وانفتاحا، تسكت الشعب بهبات المال مقابل السكوت عن مطالب إصلاحية وحلم بحياة أفضل. وبالتأكيد، سترد الغالبية، وأنا واحدة منها، أنها تريد العيش في بلد آمن ومستقر، يؤمن بدولة قائمة على أسس المواطنة والحاكمية الرشيدة ومؤسسات مستقلة وإعلام يكشف الحقيقة، ويوفر المعلومات التي هي حق لدافعي الضرائب.
لكن لا أدري ما إذا كانت الغالبية تريد العيش في دولة منفتحة تتماشى مع القرن الواحد والعشرين أم منغلقة. لذلك، ربما آن الأوان لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية أن يستطلع آراء الناس حول شكل الأردن الذي نريد.
لا بد أيضا من أن يتسع صدر ما قد يصور لنا على أنه الغالبية المؤيدة لقرار تنفيذ الإعدام، لتحمل الآراء المخالفة، وإلاّ أصبحنا جميعاً مخلوقات تشبه بعضها بعضا، تعيش في دولة أحادية اللون لا تؤمن بالتعددية وبحق الاختلاف. فسهام الانتقادات طالت كل رأي مخالف، ولم يسلم منها حتى سفراء دول مانحة قرروا انتقاد القرار علانية، لأن ذلك موقف بلادهم من عقوبة الإعدام في أي دولة في العالم.
أدرك أن الحكومة قادرة على احتواء ردات فعل الغرب، خاصة أن حساسية الأردن لمسائل متعلقة بحقوق الإنسان وتراجع حرية الرأي والتعبير، لم تعد كما كانت عليه، وأن أميركا وأوروبا تقدر دور الأردن في بناء تحالف دولي عربي إسلامي لمحاربة الإرهاب والفكر المتطرف العابر للقارات، وهي مستعدة للتغاضي عن الكثير من التراجعات. لكن لنتذكر بأن خروج الأردن قوياً ومستقراً من انزلاقات "الربيع العربي"، مدعاة للتفكير بمنح مزيد من الحريات والخطوات الإصلاحية، بدلاً من العودة الى الوراء.
(الغد)