استقلالية الصحافة وحرية التعبير.. هل ثمّة أمل في العالم العربي؟
رنا الصباغ
جو 24 : تنطفىء منارات حرية التعبير واحدة تلو الأخرى على امتداد الوطن العربي، منذرة بالانكفاء صوب حقبة من الجهل، غياب التسامح وقمح الحريات.
ويبدو الآن أن غالبية الشعوب العربية – التي كانت ترى في حرية التعبير مكسبا وحيدا من تداعيات التغيير في دول المنطقة- باتت تتجه لتقبل التضحية بهذا الحق الكوني وبانتهاك حقوق الانسان، مقابل وعود باستعادة الاستقرار والازدهار الاقتصادي.
المحزن أيضا أن القيادات تتجاسر الآن على فرض النظام القديم، مستغلة الفوضى المنتشرة عبر دول المنطقة، مع انهيار هياكل دول مثل ليبيا، اليمن، سورية، والعراق.
وهكذا يتصدر الأمن وليس الديمقراطية رأس أولويات الحكام وغالبية الشعوب، فيما تتلاشى الشعارات التي ظهرت خلال السنوات الأربع الماضية: العدالة المجتمعية، سيادة القانون وقيم الديمقراطية، احتواء الفساد المستشري وإعلاء حق الوصول إلى المعلومات وبناء إعلام احترافي يسائل السلطة ويحاسبها.
وفق هذه المعادلة، قد تمضي أجيال وأجيال قبل أن نرى مجددا أصواتا مستقلة في سماء العالم العربي.
ما يثير القلق، بروز تحالفات مبطنة بين الحكومات ورجال أعمال يديرون مؤسسات إعلامية خندقت ذاتها في مواجهة الأصوات المعارضة، التي باتت تصور على أنها تهدد أمن المجتمعات واستقرارها.
إذن هل غدت الصحافة مهنة مستحيلة في هذه المنطقة؟
في العديد من الحالات.. نعم. فالصحافيون، الأكاديميون والكتاب الذين يتحدّون الخطاب الرسمي يواجهون رقابة ومحاكمات غير عادلة، ناهيك عن العنف اللفظي والجسدي. العديد من الصحافيين رفعوا الراية وتراجعوا عن المواجهة لأسباب عدة؛ من بينها الخوف أو رغبة انتهازية لإرضاء الحكام الجدد مقابل الفوز بمكاسب شخصية.
ماذا علينا فعله أمام هذا الانحدار؟
أخشى أن أدوات وقف الانهيار معدودة. القلة من الصحافيين الشجعان الملتزمين بخدمة مجتمعاتهم من خلال كشف تجاوزات السلطة، سيواصلون خوض معركة استقلالية الإعلام وحدهم، وبكلفة عالية.
الانكفاء عن حرية الصحافة وحقوق الانسان يظهر أكثر وضوحا في مصر، التي تصنف الآن ثالث أخطر بلد على الصحافيين بعد سورية والعراق.
ويبدو أن تفجر العنف الداخلي أسند الجدل المطالب بتشديد الضغط على الإعلام. ومن الواضح أن هذه الإجراءات تتمتع بدعم واسع في المجتمع.
غداة مقتل 30 جنديا في هجومين إرهابيين منفصلين بسيناء، خرج 17 إعلاميا في وسائط حكومية وخاصة للتعهد بدعم سياسات الحكومة المناهضة للإرهاب، والابتعاد عن انتقاد عناصر الأمن، الجيش والسلك القضائي في محطاتهم ومطبوعاتهم.
لكن هذه المجموعة لم تنجح في بسط أفكارها على سائر الصحافيين. فردا هذا التعهد، خرج قرابة 600 صحافي مصري عبر فضاءات الانترنت لرفض موقف رؤساء تحريرهم والاحتجاج على ارتفاع مستوى الرقابة.
ومع ذلك، تستمر المضايقات.
في الشهر الماضي احتجز الأمن رئيس تحرير صحيفة لو موند الفرنسية آلان غريش، الذي اعتاد زيارة القاهرة. يعود سبب التوقيف قيام امرأة باستدعاء الشرطة لأنها سمعت غريش وهو "يتناقش حول الأوضاع السياسية" مع زملاء مصريين في أحد المقاهي.
وقتل سبعة صحافيين في هذا البلد منذ 30 يونيو/ حزيران 2013، فيما يعتقل 17 صحافيا بسبب قيامهم بمهامهم. من بين الذين قدموا للمحاكمة صحافيو الجزيرة الدولية ستاف بيتر غريست، محمد فهمي وباهر محمد بتهم بث "أخبار مغلوظة".
وتنتشر ضغوط مماثلة ضد صحافيين في دول عربية أخرى.
ولا يخفي سياسيون هنا بأن الأردن - على غرار العديد من دول الخليج العربي - يمارس سياسة "صفر-تحمّل" تجاه كل من ينتقد مشاركة مقاتلاته في التحالف الدولي بقيادة أميركا ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
خلال الأيام الماضية، اعتقل نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين زكي بني ارشيد بسبب مقال رأي انتقد فيه بشدة الإمارات العربية المتحدة على قرارها بتصنيف الإخوان والمجموعات الدائرة في فلكها "تنظيما إرهابيا". مدعي محكمة أمن الدولة أسند لبني ارشيد تهمة "نشر معلومات من شأنها تعكير صفو العلاقات مع دولة شقيقة". لا يخفى أن الإمارات من بين أكبر البلدان الداعمة لخزينة المملكة، كما تستضيف قرابة 200 ألف مغترب أردني.
حتى الآن، طلبت هيئة الإعلام المرئي والمسموع من قنوات التلفزة والإذاعة الإحجام عن بث أي تقارير تتصل بالشؤون العسكرية دون الحصول على موافقة مسبقة من قيادة الجيش. بخلاف ذلك، يجازف أصحاب القنوات بمخالفة قانون حماية أسرار الدولة الصادر عام 1971. وقبل أيام، استحدث الجيش منصب الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة.
بموازاة ذلك، شرعت السلطة في تطبيق قانون مكافحة الإرهاب بما يحمل معه من احتمالات تحويل أي معارض إلى مشتبه بالإرهاب. وحجبت عمان أيضا قرابة 300 موقع إخباري الكتروني بدعوى عدم قدرتها على تصويب أوضاعها مع شروط الترخيص الجديدة بموجب قانون المطبوعات والنشر المعدل. من بين هذه المواقع حبر (7iber) الذي يعلي حرية الصحافية.
في سورية، يتواصل استهداف صحافيين محليين ودوليين عمدا سواء على يد النظام أو التنظيمات التكفيرية.
وقتل في هذا البلد أكثر من 110 صحافيا منذ مارس/ آذار 2011، فيما يقبع أزيد من 60 صحافيا رهن الاعتقال واحتجاز الحرية.
وتحت سطوة التهديدات من جميع الجهات، تتجه الصحافة السورية المستقلة لهجرة هذا البلد. ومن النادر سفر مراسلين صحافيين من الإعلام الدولي إلى سورية. النتيجة: تشكل المناطق الخاضعة لسيطرة داعش الآن "ثقوبا سوداء"، لا يخرج منها إلا تقارير موجهة نادرة، وحيث ذبح عدد من الصحافيين العرب والأجانب.
في لبنان، توفر قنوات فضائية وصحف خدمات بروباغندية لرجال أعمال وسياسيين، تستوطن الأزمة السورية لتعميق حال الاستقطاب في المشهد الإعلامي.
في ليبيا واليمن، تعلو أصوات المدافع فوق "جرّة القلم" وتنذر بنسف سقف حرية الإعلام المتهافت أصلا.
ويواجه صحافيو اليمن تهديدات متزايدة من الجبهات كافة، خصوصا من المتمردين الحوثيين الذين اجتاحوا العاصمة في سبتمبر/ أيلول وفرضوا أجندتهم فيها. وتفيد مؤسسة فريدوم اليمنية غير الحكومية (Freedom Foundation) باستهداف 33 صحافيا و19 مؤسسة إعلامية، على يد هذه المجموعة.
على خلفية هذا المشهد القاتم، ينعقد ملتقى أريج السابع بعمان في 5 ديسمبر/ كانون الأول تحت شعار: "الإعلام العربي.. معركة الاستقلالية".
في هذا الملتقى السنوي يلتقي 320 إعلاميا وأكاديميا – من بين 1530 تدربوا مع أريج منذ انطلاقها أواخر 2005 - لمناقشة تداعيات انكفاء الحريات الإعلامية المقلق في المنطقة وارتفاع موجة بث الأخبار المختلقة واغتيال الشخصية.
هؤلاء الرواد يضيئون سماء الإعلام القاتمة في العالم العربي ويخددون معايير الإعلام المحترف؛ فهم يقولون الحقيقة للجالسين في موقع السلطة، يضعونهم أمام المساءلة ويسعون لتحسين حياة الناس.
بعد كل ذلك، نسأل كيف سينتصر الإعلاميون العرب في معركة الاستقلالية؟
نحتاج إجابة عن هذا السؤال طالما بقي لدينا الحق في طرحه.
• كاتبة المقال صحافية مستقلة ومدربة إعلامية تدير أريج المتخصصة في ترسيخ ثقافة صحافة الاستقصاء في غرف الأخبار وكليات الإعلام في تسع دول عربية؛ الأردن، سورية، لبنان، فلسطين، العراق، مصر، البحرين، اليمن وتونس.
ويبدو الآن أن غالبية الشعوب العربية – التي كانت ترى في حرية التعبير مكسبا وحيدا من تداعيات التغيير في دول المنطقة- باتت تتجه لتقبل التضحية بهذا الحق الكوني وبانتهاك حقوق الانسان، مقابل وعود باستعادة الاستقرار والازدهار الاقتصادي.
المحزن أيضا أن القيادات تتجاسر الآن على فرض النظام القديم، مستغلة الفوضى المنتشرة عبر دول المنطقة، مع انهيار هياكل دول مثل ليبيا، اليمن، سورية، والعراق.
وهكذا يتصدر الأمن وليس الديمقراطية رأس أولويات الحكام وغالبية الشعوب، فيما تتلاشى الشعارات التي ظهرت خلال السنوات الأربع الماضية: العدالة المجتمعية، سيادة القانون وقيم الديمقراطية، احتواء الفساد المستشري وإعلاء حق الوصول إلى المعلومات وبناء إعلام احترافي يسائل السلطة ويحاسبها.
وفق هذه المعادلة، قد تمضي أجيال وأجيال قبل أن نرى مجددا أصواتا مستقلة في سماء العالم العربي.
ما يثير القلق، بروز تحالفات مبطنة بين الحكومات ورجال أعمال يديرون مؤسسات إعلامية خندقت ذاتها في مواجهة الأصوات المعارضة، التي باتت تصور على أنها تهدد أمن المجتمعات واستقرارها.
إذن هل غدت الصحافة مهنة مستحيلة في هذه المنطقة؟
في العديد من الحالات.. نعم. فالصحافيون، الأكاديميون والكتاب الذين يتحدّون الخطاب الرسمي يواجهون رقابة ومحاكمات غير عادلة، ناهيك عن العنف اللفظي والجسدي. العديد من الصحافيين رفعوا الراية وتراجعوا عن المواجهة لأسباب عدة؛ من بينها الخوف أو رغبة انتهازية لإرضاء الحكام الجدد مقابل الفوز بمكاسب شخصية.
ماذا علينا فعله أمام هذا الانحدار؟
أخشى أن أدوات وقف الانهيار معدودة. القلة من الصحافيين الشجعان الملتزمين بخدمة مجتمعاتهم من خلال كشف تجاوزات السلطة، سيواصلون خوض معركة استقلالية الإعلام وحدهم، وبكلفة عالية.
الانكفاء عن حرية الصحافة وحقوق الانسان يظهر أكثر وضوحا في مصر، التي تصنف الآن ثالث أخطر بلد على الصحافيين بعد سورية والعراق.
ويبدو أن تفجر العنف الداخلي أسند الجدل المطالب بتشديد الضغط على الإعلام. ومن الواضح أن هذه الإجراءات تتمتع بدعم واسع في المجتمع.
غداة مقتل 30 جنديا في هجومين إرهابيين منفصلين بسيناء، خرج 17 إعلاميا في وسائط حكومية وخاصة للتعهد بدعم سياسات الحكومة المناهضة للإرهاب، والابتعاد عن انتقاد عناصر الأمن، الجيش والسلك القضائي في محطاتهم ومطبوعاتهم.
لكن هذه المجموعة لم تنجح في بسط أفكارها على سائر الصحافيين. فردا هذا التعهد، خرج قرابة 600 صحافي مصري عبر فضاءات الانترنت لرفض موقف رؤساء تحريرهم والاحتجاج على ارتفاع مستوى الرقابة.
ومع ذلك، تستمر المضايقات.
في الشهر الماضي احتجز الأمن رئيس تحرير صحيفة لو موند الفرنسية آلان غريش، الذي اعتاد زيارة القاهرة. يعود سبب التوقيف قيام امرأة باستدعاء الشرطة لأنها سمعت غريش وهو "يتناقش حول الأوضاع السياسية" مع زملاء مصريين في أحد المقاهي.
وقتل سبعة صحافيين في هذا البلد منذ 30 يونيو/ حزيران 2013، فيما يعتقل 17 صحافيا بسبب قيامهم بمهامهم. من بين الذين قدموا للمحاكمة صحافيو الجزيرة الدولية ستاف بيتر غريست، محمد فهمي وباهر محمد بتهم بث "أخبار مغلوظة".
وتنتشر ضغوط مماثلة ضد صحافيين في دول عربية أخرى.
ولا يخفي سياسيون هنا بأن الأردن - على غرار العديد من دول الخليج العربي - يمارس سياسة "صفر-تحمّل" تجاه كل من ينتقد مشاركة مقاتلاته في التحالف الدولي بقيادة أميركا ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.
خلال الأيام الماضية، اعتقل نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين زكي بني ارشيد بسبب مقال رأي انتقد فيه بشدة الإمارات العربية المتحدة على قرارها بتصنيف الإخوان والمجموعات الدائرة في فلكها "تنظيما إرهابيا". مدعي محكمة أمن الدولة أسند لبني ارشيد تهمة "نشر معلومات من شأنها تعكير صفو العلاقات مع دولة شقيقة". لا يخفى أن الإمارات من بين أكبر البلدان الداعمة لخزينة المملكة، كما تستضيف قرابة 200 ألف مغترب أردني.
حتى الآن، طلبت هيئة الإعلام المرئي والمسموع من قنوات التلفزة والإذاعة الإحجام عن بث أي تقارير تتصل بالشؤون العسكرية دون الحصول على موافقة مسبقة من قيادة الجيش. بخلاف ذلك، يجازف أصحاب القنوات بمخالفة قانون حماية أسرار الدولة الصادر عام 1971. وقبل أيام، استحدث الجيش منصب الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة.
بموازاة ذلك، شرعت السلطة في تطبيق قانون مكافحة الإرهاب بما يحمل معه من احتمالات تحويل أي معارض إلى مشتبه بالإرهاب. وحجبت عمان أيضا قرابة 300 موقع إخباري الكتروني بدعوى عدم قدرتها على تصويب أوضاعها مع شروط الترخيص الجديدة بموجب قانون المطبوعات والنشر المعدل. من بين هذه المواقع حبر (7iber) الذي يعلي حرية الصحافية.
في سورية، يتواصل استهداف صحافيين محليين ودوليين عمدا سواء على يد النظام أو التنظيمات التكفيرية.
وقتل في هذا البلد أكثر من 110 صحافيا منذ مارس/ آذار 2011، فيما يقبع أزيد من 60 صحافيا رهن الاعتقال واحتجاز الحرية.
وتحت سطوة التهديدات من جميع الجهات، تتجه الصحافة السورية المستقلة لهجرة هذا البلد. ومن النادر سفر مراسلين صحافيين من الإعلام الدولي إلى سورية. النتيجة: تشكل المناطق الخاضعة لسيطرة داعش الآن "ثقوبا سوداء"، لا يخرج منها إلا تقارير موجهة نادرة، وحيث ذبح عدد من الصحافيين العرب والأجانب.
في لبنان، توفر قنوات فضائية وصحف خدمات بروباغندية لرجال أعمال وسياسيين، تستوطن الأزمة السورية لتعميق حال الاستقطاب في المشهد الإعلامي.
في ليبيا واليمن، تعلو أصوات المدافع فوق "جرّة القلم" وتنذر بنسف سقف حرية الإعلام المتهافت أصلا.
ويواجه صحافيو اليمن تهديدات متزايدة من الجبهات كافة، خصوصا من المتمردين الحوثيين الذين اجتاحوا العاصمة في سبتمبر/ أيلول وفرضوا أجندتهم فيها. وتفيد مؤسسة فريدوم اليمنية غير الحكومية (Freedom Foundation) باستهداف 33 صحافيا و19 مؤسسة إعلامية، على يد هذه المجموعة.
على خلفية هذا المشهد القاتم، ينعقد ملتقى أريج السابع بعمان في 5 ديسمبر/ كانون الأول تحت شعار: "الإعلام العربي.. معركة الاستقلالية".
في هذا الملتقى السنوي يلتقي 320 إعلاميا وأكاديميا – من بين 1530 تدربوا مع أريج منذ انطلاقها أواخر 2005 - لمناقشة تداعيات انكفاء الحريات الإعلامية المقلق في المنطقة وارتفاع موجة بث الأخبار المختلقة واغتيال الشخصية.
هؤلاء الرواد يضيئون سماء الإعلام القاتمة في العالم العربي ويخددون معايير الإعلام المحترف؛ فهم يقولون الحقيقة للجالسين في موقع السلطة، يضعونهم أمام المساءلة ويسعون لتحسين حياة الناس.
بعد كل ذلك، نسأل كيف سينتصر الإعلاميون العرب في معركة الاستقلالية؟
نحتاج إجابة عن هذا السؤال طالما بقي لدينا الحق في طرحه.
• كاتبة المقال صحافية مستقلة ومدربة إعلامية تدير أريج المتخصصة في ترسيخ ثقافة صحافة الاستقصاء في غرف الأخبار وكليات الإعلام في تسع دول عربية؛ الأردن، سورية، لبنان، فلسطين، العراق، مصر، البحرين، اليمن وتونس.