الجامعة والرداء الجامعي حينما كانا ذراعين للتحديث والعصرنة في الأردن
د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :
في مواجهة الخطاب الحكومي والنخبوي السائد في الأردن حول الجامعة وتعريفها وتحديد أهدافها، وتشخيص المراد منها، والذي يختزل الجامعة بادوار ضيقة، وحيث لم يعد يرى فيها أكثر من محاضرات وفصول دراسية ومختبرات ومهارات تحملها كائنات بشرية من أجل أن تتوجه لسوق العمل محليا ودوليا، وهو خطاب صار يرى في الجامعة مجرد فضاء تقني وعلمي و"مالي" مغفلا الجوانب الأكثر خطورة وحيوية وتحديدا الجوانب السوسيولوجية والانثروبولوجية والرمزية والمعنوية لهذا الفضاء.
في مواجهة هذا الخطاب الحكومي والنخبوي الاختزالي السائد حول الجامعة، أجدني مضطرا لسوق هذه الاستهلال النظري الذي يقدمه واحدا من أفضل علماء الاجتماع والانثروبولوجيا في التاريخ الفرنسي والغربي عموما. فبعد تحليله للدور الذي مارسته الجامعة في التاريخ الغربي، يلحظ عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، أن الجامعة كانت علامة فارقة في التاريخ الإنساني وفي إنتاج الدول والمجتمعات؛ فبعد أن كانت الدول والممالك والمشايخ تقوم على قوة الإنسان المقاتل ونبالة السيف الذي يحمله هذا المحارب، وبعد أن كانت حدود الدولة والمشيخة تعتمد على عدد السيوف وقوة بأسها، صارت الدولة الحديثة هي نتاج للجامعة ولقوة العاملين فيها. وصارت حدود الدولة وقوتها وحدود سطوتها يعتمد على ما تنتجه الجامعة من نخب في الاقتصاد والسياسة واللغة والهندسة والطب والفيزياء والفلك وغيرها. ويخلص بورديو في مقاربته، إلى القول أنه وفي تشكيل الدول الحديثة وفي فهم عوامل قوتها من المهم تحليل النظم الجامعية والأدوار التي تلعبها الجامعة في المجتمعات الحديثة, وهو يلحظ أنه وفي الدولة الحديثة فان نبالة "الروب" او الثوب الجامعي قد استبدلت نبالة السيف المعدني.
وفي فهم الدور المفتاحي الذي لعبته وما زالت تلعبه الجامعة في المجتمعات الحديثة وتحديدا الغربية منها، يمكن الحديث عن أدوار ثلاثة قامت بها الجامعة؛ دور معرفي تمثل في تطوير المعرفة ونقلها من شكلها الفسلفي المتوارث إلى شكلها العلمي، إذ نشأت الجامعات الأولى في الغرب إبان سطوة المعرفة الفلسفية وكان المدرسون فيها في مختلف الحقول الطبية الطبيعية والإنسانية هم من الفلاسفة او المختصون في الفلسفة، وهو ما يفسر ورود كلمتي دكتوراه فلسفة قبل كتابة التخصص في شهادات الدكتوراه التي حصلنا عليها وفي مختلف الحقول. الدور الثوري معرفيا الذي قامت به الجامعة في السياق الغربي كان نقل المعرفة من عالم الفلسفة إلى عالم العلم، الجامعة هي من عملت وبدء من القرن السادس عشر على استبدال المعرفة الفلسفية بالمعرفة العلمية وعلى إحلال رجل العلم مكان رجل الفلسفة.
واما الدور الثاني الذي لعبته الجامعة في السياق الغربي فكان دورا تحديثيا للبنى الاجتماعية السائدة, فالجامعة التي اختير لها اسم University وحيث اختير الاشتقاق من كلمة Universe بمعنى الكون وحيث الشمول والتعدد واللاتجانس وحيث تعدد الالوان والهويات والماهيات، كانت بمثابة الفضاء الذي يستقبل الطلاب من مختلف المناطق ومن مختلف الهويات الدينية والقومية والعرقية، فكانت الجامعة جزء من عملية نقل المجتمعات الغربية من مجتمعات الهويات الضيقة العشائرية والاقليمية والطائفية المتقاتلة حينها إلى مجتمع الدولة القومية والى مجتمع الأمة الكبيرة. دور الجامعة كان كبيرا على صعيد نقل الفرد من هويات ضيقة Particularistic إلى هويات أكثر اتساعا وأكثر كونية More Universalistic.
وأما الدور التحديثي الثالث الذي قامت به الجامعة في السياق الغربي، فقد تمثل في استبدال الهرميات التقليدية ونظام التباينات الاجتماعية التقليدي الذي يقوم على تصنيف الأفراد حسب عشيرتهم وعرقهم وانتمائهم الطائفي إلى تصنيفات تقوم على تعريف الفرد حسب كم المعرفة العلمية الذي اكتسبه، وهنا كان الانتقال الكبير من مجتمعات تعرف الفرد وتصنفه حسب صفات بيولوجية أو اجتماعية متوارثة إلى مجتمعات تعرف الفرد وتعترف به حسب ما امتلكه من معرفة علمية أو عملية او تقنية. والحال، ان الجامعة الغربية عملت تحول تاريخي في بنية المجتمعات الغربية ونقلها من مجتمعات الاعتراف بالفرد من خلال Inscription التي هي موروثة، إلى مجتمعات Merit أي الاعتراف بالفرد من خلال كم المعلومات والمهارات والملكات العقلية والعلمية التي راكمها وتعلمها واكتسبها.
في إدارة قطاع التعليم العالي وقطاع الجامعات في الأردن والذي باتت تضربه الأزمات المالية والإدارية والعلمية كما الأخلاقية والاجتماعية المتلاحقة صار جليا هيمنة "التكتيكي" على الاستراتيجي والعمل "الميكروي" بالقطعة بدلا من العمل الماكروي الشمولي الذي يتعامل مع الجامعات ككتلة واحدة في مشروع بناء الدولة والمجتمع في الأردن. ما يعني افتقار إدارة قطاع التعليم العالي إلى الإدارة التي يمثلها "عقل الدولة" Raison d'Etat الشمولي والمؤسساتي والذي يتجاوز عقل الفرد ومحدودية قدراته، كما يتجاوز أهوائه ورغباته ونزواته.
غياب العقل الذي يمثل عقل الدولة Raison d'Etat عن إدارة قطاع التعليم العالي، والذي وبدلا من أن يتعامل مع الجامعات باعتبارها كتلة واحدة إلى جانب كتل أخرى اقتصادية وسياسية ودينية واجتماعية تشكل كلها الدولة الأردنية وتكون مهمة صانعي القرار في قطاع التعليم العالي هو جعل قطاع التعليم العالي يقوم بالدور المطلوب منه ليحقق أهداف الأمة الاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية والوجودية وبالتكامل المطلق مع الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الأخرى كالبنك والمحكمة والمسجد والمدرسة والسوق والحزب والنقابة والمتحف، فانه يتعامل مع قطاع التعليم العالي دون أدنى موائمة وتكاملية مع القطاعات الأخرى، بل أن غياب عقل الدولة بات يرى في كل جامعة بمثابة جامعة مستقلة لا علاقة لها بالجامعات الأخرى، بل أن هنالك بين رؤساء الجامعات من يعجز عن امتلاك عقل قائد الاوركسترا الذي يوائم ما بين مئات الالات الموسيقية المختلفة بنيويا ليجعلها تتكامل فيما بينها وظيفيا فتقوم بأداء اللحن بصورة مشتركة. فكثير من رؤساء الجامعات يعجز عن أدراك الكيفية التي يمكن لكليات الطب والهندسة والآداب والعلوم والتربية والشريعة أن تعمل كلها جنبا إلى جنب لتحقق نفس الأهداف الوطنية وهي تتمايز بنيويا ولكنها تتكامل وظيفيا.
حال قطاع التعليم العالي والجامعات اليوم يمثل مفارقة كبيرة مقارنة مع الحال الذي عاشته الجامعات الأردنية إبان فترة التأسيس وفترة البدايات التي أجزم أنها كانت واعدة. أجزم أن الجامعة في بداياتها في الأردن كانت واعدة وكانت عوامل وأذرع حقيقية للتغيير والتحديث بوجود نخب جليلة محترمة تلقت تعليمها في أفضل الجامعات العالمية، وبوجود جو من الاستقلالية الذي منح للقيادات الجامعية وبدعم من أعلى المرجعيات الهاشمية، وبوجود عقل يرى في الجامعات مصدرا لإنتاج المعرفة والحداثة وان كان يحمل بعض المخاطر الأمنية ولكنه لا يرى في الجامعات مجرد فضاءات كل الهم والاشتغال هو أن يتم احتوائها أمنيا.
في الدور التحديثي الذي لعبته الجامعات في البدايات في الأردن، يحلو كثيرا لي أن أعطي مثال محافظة اربد ودور جامعة اليرموك في البدايات فيها. فالجامعة التي تأسست في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وفي بيئة اجتماعية كانت ما تزال تهيمن عليها بنى اقتصادية واجتماعية وقيمية وأخلاقية ذات طابع فلاحي ورعوي مع ضعف واضح في البنى المدينية، عملت على تحديث وتثوير البنى الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والقيمية في هذا المنطقة. فمجتمع محافظة اربد والشمال الذي كان ينعت الجامعة بأقذع العبارات لأنه كان يوفر فضاء خليطا بالمعنى الثقافي، ومختلطا بالمعنى الديني السائد حد رفض الأهالي إرسال بناتهم الإناث للدراسة في الجامعة، وحيث كان معظم طلبة الجامعة هم من خارج المحافظة بل إن جزء كبيرا منهم كان يأتي من الدول العربية الشقيقة، وكان معظم الكادر التدريسي هو من خارج المحافظة بل ومن خارج الأردن، عملت الجامعة على تغيير جذري في المفاهيم والعقليات. فبعد التردد والرفض لإرسال الإناث للجامعة التي اقتصرت طالباتها الإناث على بنات العائلات الاكثر مدينية من القدس وعمان ونابلس، صار أمرا اعتياديا أن تقوم نفس العائلة التي حاربت فكرة إرسال بنتها للدراسة بالجامعة ببيع قطعة أرض كي تقوم بتدريس بناتها في الجامعة. الجامعة في الأردن في البدايات كانت بالفعل أداة للتحديث والتغيير حتى في أدق الفضاءات الاجتماعية وأكثرها خطورة وأهمية.
في مقابل البدايات الواعدة للجامعات في الاردن، تعيش الجامعات اليوم أزمات كبيرة ومتلاحقة، إن كان على صعيد المهارات المعرفية والعملية التي تقدمها لطلبتها، او كان على صعيد الدور التحديثي والتثويري للبنى الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع الأردني، او على صعيد الدور التحديثي للهويات الاجتماعية السائدة وللمنظومات القيمية السائدة في المجتمع الاردني. وبالتأكيد، فان المساحة التي تتيحها مقالة صحافية لا يمكنها إلا أن تضيق بتعداد وشرح المشكلات التي يعاني منها قطاع التعليم العالي في البلاد وحيث يتم الاكتفاء ببعض المشهديات المفتاحية المكثفة التي تشير إلى حجم المأزق الذي يعيشه هذا القطاع.
قبل حوالي الثلاث سنوات عشت وبصفتي عميدا لإحدى الكليات في أحد الجامعات الكبيرة في الاردن المشهد الحقيقي التالي وإن كان المشهد متطرفا في سورياليته. لقاء قصير جمعني بأحد نواب الرئيس المسئول عن عملي في مكتبه الرسمي في مبنى الرئاسة الموقر والمهيب وحيث صور جلالة الملك وولي العهد الأمين، وحيث العلم الاردني المهيب وعلم الجامعة الحبيب. محتوى اللقاء والحديث لم يكن منسجما البتة مع قدسية المكان وقدسية العلم والعلم وأخلاق العلماء، ناهيك عن أخلاق القيادات الجامعية؛ في اللقاء كانت عبارات لا تنتمي إلا إلى عالم المافيات، وعالم "الفتوات" والقتلة. عبارات من المسئول تخبرني وبخبث أن علي أن أتوقف عن مواجهة من يرتشون مقابل بيع علامات الطلبة، ومن يزورون الفواتير المالية في كليتهم، ومن تضاف أسمائهم لأبحاث لم يكتبوا حرفا فيها، قائلا وبخبث: عليك أن تحذر وتخاف على نفسك وأبنائك وممتلكاتك وان تتوقف عن مواجهة هؤلاء. المفارقة أن هؤلاء "الهؤلاء" كانوا وما زالوا هم القوة الضاربة لهذا المسئول الجامعي السابق. أجزم أن إدارة التعليم العالي الذي لم يمنع من هو بمثل هذا السلوك المافيوي أن يكون بين النخب القيادية في التعليم العالي، كما لم يمنع هذا القيادي الأكاديمي من ممارسة سلوك المافيا وهو يستظل بعلمي الدولة والجامعة المقدسين هي إدارة تعيش مازقا حقيقيا.
في الحديث عن مأزق الجامعة اليوم، من المهم الحديث عن جامعات بات معظم طلابها هم من أبناء المحافظة الواحدة أو المدينة الواحدة، واجزم انه إذا استمر المسار ذاته ستكون جامعة العشيرة الواحدة خلال عشر سنين أو أقل، بدلا من ان تكون جامعات وطنية او عالمية، وحيث تتلاقح الثقافات والرؤى ومنظومات القيم والأخلاق. وفي الحديث عن الجامعات اليوم لا بد من الحديث عن تلك النزعة المتنامية في المجتمع التي بات إفرادها لا يرون في الجامعات على أنها مؤسسات وطنية، بل هي مؤسسات تتبع الحمى العشائري أو المناطقي والجهوي التي استوطنت الجامعة فيها. فالجامعات التي يدفع كل الاردنيين الضرائب لبنائها ولادامة عملها، باتت تدرك وترى من قبل الناس على أنها تخص سكان المنطقة التي توجد بها هذه الجامعة، وبات سكان المنطقة او العشيرة المهيمنة في المنطقة التي توجد بها الجامعة يتعاملون مع الجامعة وكأنها ملكية للعشيرة أو للمجتمع المحلي متناسين أنها مؤسسة بنيت بضرائب الاردنيين كافة وليس بواسطة صندوق المضافة التابع للعشيرة.
وفي الحديث عن مأزق التعليم العالي من المهم النظر إلى تلك المنظومة القيمية والهوياتية التي يدخل بها أبناؤنا من الطلبة إلى الجامعة وتلك التي يخرجون بها بعد قضائهم سنوات داخل فضاء الجامعة. ففي غياب "عقل الدولة" الذي يدير الجامعات، وفي غياب تلك الحزم من المساقات الفلسفية والثقافية التي تؤكد على العقل والتفكير النقدي وعلى نسبية المعرفة وعلى تعددية الثقافات والاديان وتنوعها، يدخل الطالب الجامعة في سن الثامنة عشرة وهو يمتلك هوية ضبابية وهلامية، وبدلا من أن يخرج الطالب من الجامعة بعدما صنعت منه مواطنا أردنيا ينتمي للاردن الكبير وحيث المواطنية هي هويته الحداثية، يخرج الطالب وقد حولته الجامعة إلى عضو في عشيرة أو منطقة جغرافية او عضو في جماعة دينية بدلا من أن يكون عضوا في مجتمع كبير هو المجتمع الأردني وحيث كل الأردنيين هم مواطنين مثله وكلهم شركاء في الوطن نفسه.
ويتمظهر التحول أو الانقلاب الذي تقوم به الجامعات الآن مقارنة بذلك الدور الذي قامت به في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في ذلك الدور الذي يفترض أن تقوم به الجامعة على صعيد التنضيد الاجتماعي او على صعيد شكل الهرميات الاجتماعية السائدة. فنظام الترقيات الذي عمل في السياق الغربي على صناعة هرميات اجتماعية تعتمد على تنضيد وترتيب الإفراد حسب كفاءتهم العملية في مجموعات حسب رتبهم العلمية التي حصلوا عليها من خلال ترقياتهم، فقد تم اختراق نظام الترقيات من خلال الثغرات الموجودة في قانونه، كما تم اختراق نظام الترقيات بواسطة النظام الاجتماعي وحيث يلعب الوزير وشيخ العشيرة ونائب البرلمان أدوارا مهما في صيرورة الترقيات الاكاديمية وسيرورتها. وعليه، فبدلا من أن تزود الجامعة المجتمع بهرميات حداثية ، باتت الجامعة تعيد إنتاج نفس الهرميات التقليدية وحيث السياسي وشيخ العشيرة يعيدان إنتاج الهرميات التقليدية غير المنتجة.