2024-04-24 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

الجامعات وبعض مجالس أمنائها: منطق الكفاءة والدولة أم منطق الغنيمة والعصبة؟

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


في محاولته فهم إشكالية التخلف والتبعية في العالم العربي، صاغ المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري مشروعه الفكري الهام الذي اشتمل على عشرات الكتب والمقالات والمحاضراتالتي سعى من خلالها إلى فهم الركود التاريخي الذي يعيشه المجتمع العربي منذ قرون. في صلب المشروع الفكري الذي صاغه الجابري محللا ومفككا للعقل العربي وبنيته، يضع الجابري مفهوما هاما يعتبره مفتاحيا في فهم بنية العقل العربي. ويتعلق الأمر هنا بمفهوم "الغنيمة". لا يمكن فهم الركود التاريخي الذي تعيشه المجتمعات العربية دون تفكيك مكونات واليات التفكير السائدة. فكرة "الغنيمة" وأخلاقيات "الغنيمة" وممارساتها هي مفاهيم مؤسسة في العقل العربي المعاصر وحيث الفقر والجدب والقحط تبدأ من العقل لتنتهي في الاقتصاد والسياسة والأخلاق والاجتماع.

في مجتمعات ما قبل الدولة الذي عرفته منطقتنا، كان مفهوم "الغنيمة" قد تشكل، وحيث عاشت مجتمعات فلاحية ومدينية مستقرة تزرع وتفلح وتصنع القماش والسجاد والاثاث حنبا الى جنب مع تلك المجتمعات الرعوية التي لم تكن تجيد الفلاحة والزراعة، وتعتمد في حياتها على تربية القطعان فقط. ولان طعام الانسان ومسكنه لا يكتمل بممارسة الرعي وتربية القطعان فقط، فقد حصلت المجتمعات الرعوية على الشق النباتي من غذائها بطريقين: بعض المجتمعات الرعوية الغنية كانت تمارس التبادل والمقايضة لفائض منتجاتها الحيوانية مع الفلاحين، فتقايض الخراف والغنم ب القمح والتين والزيتون. وأما البعض الآخر من المجتمعات الرعوية فقد امتهنت السبي والغزو والحرب متكئة على "العصبية" التي يشير إليها أبن خلدون، لتقوم بمهاجمة الفلاحين وسكان المدن لتحصل بالقوة والعصبية على ما تريده من منتجات نباتية وحرفية. فكانت الغنيمة، والتي لم يكن من قبيل الصدفة أن تنفرد اللغة العربية باشتقاق المفهوم من مفردة "غنم" اي الخراف. فباتت لفظة الغنيمة تشير إلى طريقة الحصول على الشيء بدون وجه حق وبدون مقابل وبدون مسوغ شرعي وقانوني واجتماعي. القوة والحيلة والخديعة والتدليس والنفاق والمخاتلة هي فقط الوسائل التي تستخدم للحصول على الشيء المراد والمبتغى.

تطورت المجتمعات في منطقتنا ودخلت عصر الدولة التي هي منطقيا وموضوعيا تتجاوز مجتمعات العشيرة والقبيلة والطائفة، ولكن سايكولوجيا الغنيمة تبدو حاضرة في كل الفضاءات الاجتماعية بل وفي أدق العلاقات الاجتماعية. العلامة يتم الوصول اليها ليس من خلال المجهود المكافئ او المعادل لقيمة العلامة، والمنحة الدراسية لا يتم الحصول عليها من خلال الجهد التراكمي والمتواصل والتنافس مع الآخرين في مستوى كفاءتهم وقدراتهم ومهاراتهم كي يتم الحصول على المنحة. سايكولوجيا الغنيمة تتيح الحصول على المنحة بالوسائل والطرق التي تشرعنها سايكولوجيا الغنيمة. رخصة البناء والقيادة ورخص ممارسة المهنة باتت كلها تخضع لعقلية الغنيمة وطرقها وسايكولوجيتها.

ولأن الكرسي وحجمه وشكله بات يختزل في العقل الجمعي مفهوم النجاح والوصول والشهرة، فقد باتت سايكولوجيا الغنيمة هي الأكثر حضورا واستخداما في مجال الوصول للكرسي والجلوس عليه. ذات يوم وفي مجتمعات ما قبل الدولة، كان فارس العشيرة هو ذلك المقاتل الغازي الذي لا يعود الا وقد مكنته حيلته وقوته ومخاتلته من جلب غنم الفلاح كي يحصل على الشرف والاسم داخل عشيرته، تجاوز المجتمع بنيويا ووظيفيا العشيرة، ولكن هناك من يصر على أن لا تتغير منظومة قيمنا وأخلاقياتناوكأننا لم ننتقل لعصر الدولة ودستورها ولمجتمع الدولة والمؤسسية ومبادئ المواطنية وحيث كل العشرة ملايين الذي يعيشون على الارض التي تسمى الأردن، كلهم متساوون ومتشابهون في المواطنية لأنهم متشابهون من حيث الانتماء الى نفس الأرض والمنطقة الجغرافية. الكرسي والمنحة والعلامة والوظيفة ورخصة القيادة يتم تمثلها وإدراكها وتخيلها كلها على أنها "غنائم". ما تغير فقط هو نوع الغنيمة، فبعد أن كانت الغنيمة في مجتمع ما قبل الدولة "غنمة" وخروفا، صارت الغنيمة شهادة ومنحة دكتوراه ومنصبا وكرسيا اشرافيا أكاديميا او وزاريا.

قبل أيام صدرت التشكيلات الأكاديمية في واحدة من الجامعات الكبيرة والتي تتصدر الأخبار السلبية والقاتمة منذ أشهر وحيث لا مؤشر موضوعيا لقياس مستوى الأزمة غير المسبوقة التي تعيشها هذه الجامعة أفضل من مؤشر المديونية ومؤشر مشاركات العاملين فيها في مؤتمرات ودورات تدريبية وبرامج تبادل دولية، وحيث تضاعفت مديونية الجامعة أكثر من ثلاث مرات خلال سنوات معدودة، مما يجعلها الجامعة الأسرع نموا على صعيد المديونية والعجز المالي والذي يستتبع عجزا في كل الوظائف والواجبات المناطة بالجامعة تجاه مجتمعها الكبير والمحلي وتجاه العاملين بها وتجاه العلم والمعرفة العلمية.

يبدو أن من كان وراء التشكيلات القيادية لم يقرأ سطرا واحدا عن أزمة الجامعة الخطيرة جدا وغير المسبوقة. وبدلا من تسمية واختيار للقيادات الاكاديمية القادرة على انتشال الجامعة من ازمتها العميقة غير المسبوقة، جاءت التشكيلات لتكرس مسارات تعميق الأزمة، بل وأجزم أن الوجبة التي قدمها مجلس أمناء الجامعة هي أفضل صيغة لتفجير الوضع داخل الجامعة، بل هي بمثابة صاعق التفجيرلواقع الحال السائد في هذه الجامعة الذي يسوده الاحتقان الشديد. وللتدليل على عمق الأزمة في الجامعة يكفي متابعة سلسلة طويلة من المقالات والبوستات التي تتعلق بحجم الخراب والفساد والترهل الذي أصاب هذه المؤسسة. وكان يكفي قراءة كم المقالات الكثيرة التي تواترت عن الجامعة لادراك حساسية وضع هذه الجامعة وحراجة وضعها المالي والإداري والأكاديمي.

فباستثناء بعض الاسماء القليلة التي تحظى باعتراف واسع في الجامعة لكفاءتها وخبرتها ونزاهتها ومناقبيتها على صعيد الجامعة بل والوطن كله، فقد جاءت التشكيلات لتكرس منطق الغنيمة وسايكولوجيتها ولتزيد من قتامه الصورة في الجامعة. ففي التشكيلات التي خرج علينا مجلس أمناء الجامعة بها ورد إسم لزميل لم يستوف شروط لقب "عميد" في كلية هي من أهم كليات الجامعة، فحظي بلقب قائم بأعمال العميد بدلا من عميد رغم وجود ما لا يقل عن عشرين أستاذا يحملون رتبة الاستاذية من سنين طويلة جدا وقد تخرجوا من أفضل الجامعات الاجنبية، وكان اختيار واحد منهم سيجلب للكلية زميلا حاملا للقب عميد وليس لقب قائم بأعمال عميد. ثمة سؤال يحمل إحساسا بالمرارة أود طرحه على السادة أعضاء مجلس الأمناء: هل فكرتكم في المضامين الأخلاقية للقرار وهي مضامين تمس في الصميم قيم العدالة والتكافؤ والإحساس بها لدى أكثر من عشرين أستاذا في هذه الكلية؟ وبالإضافة للتبعات الأخلاقية، هل فكرأعضاء مجلس الأمناء الموقر أنه وهو يتخذ هذا القرار إنما كان يتخذ قرارا متعمدا بحرمان الكلية من عناصر بشرية راكمت عشرات الأبحاث وكما هائلا من التجارب والمهارات العلمية والإنسانية والإدارية ينبغي للكلية والجامعة والمجتمع الاستفادة من خبراتها، ليتم الاستعانة بمن هو أقل خبرة وتجربة ومهارة في تطوير الكلية والمؤسسة.

أجزم أن تجاوز أكثر من عشرين شخصا يحملون رتبة أستاذ في كلية عريقة سوف يولد عشرات الأسئلةفي نفوس العاملين في المؤسسة عن معنى العمل والجدية والإنتاجية والبحث العلمي وجودة التدريس إذا كانت هذه كلها لا تشكل معايير تسمح للشخص بأن ينافس وبأن يحصل على الترقية للمواقع القيادية. تكريس منطق "الغنيمة" يعني حتما تكريس ثقافة الكفر بالعمل والانتاجية وتحصيل العلم والمعرفة لانها صارت على ارض الواقع لا تشكل عوامل أو روافع لحصول الفرد على مكانة إدارية واجتماعية أعلى يسعى كل فرد منا للحصول عليها. وهو ما يؤدي في المحصلة إلى خراب المجتمع الكبير الذي لا يمكن له أن يعيش وينمو بدون تناقس وتسابق أفراده على بناء القدرات والمهارات والخبرات.

وفي التشكيلات التي خرج علينا بها مجلس الأمناء قبل أيام ظهرت أسماء لأشخاص اختيروا لمواقع قيادية في كلياتهم، كنا نتمنى لو أن مجلس الأمناء طرح بعض الأسئلة عن سجلهم الوظيفي وضميرهم المهني وعن التزامهم بأخلاقيات العمل الأكاديمي، من قبيل: هل يخلو اسم المرشح لموقع العميد من أي مثول أمام لجان جامعية للتحقيق؟ وهل يخلو اسم المرشح من أي عقوبات سبق أن صدرت عن لجان للتحقيق في الجامعة؟ وهل تخلو سيرة العميد المقترح من أي جرائم تزوير في وثائق جامعية رسمية؟ وفوق كل هذه الاسئلة، كنا نتمنى لو أن مجلس الامناء تحرى عن اكثر المعلومات بديهية حين كان يتم طرج المترشحين لموقع العميد، من قبيل هل يحمل المرشح لموقع العمادة رتبة الأستاذية، وهل هناك في كليته من يحمل هذه الرتبة؟ وما هو عدد من يحملون هذه الرتبة؟

وإضافة الى التمنيات الواردة أعلاه، كنا نتمنى لو مارس مجلس أمناء الجامعة دوره الرقابي المناط به حسب القانون، حين كان يتم تدمير الكثير من المراكز البحثية بالجامعة من خلال تسمية من لا صلة لهم معرفيا وعلميا بهذه المراكز ليشغلوا مواقع القيادة فيها. فالجامعة التي بنت على مدى تاريخها أكثر من مركز بحثي يعنى بالدراسات الاجتماعية والانسانية والثقافية للمجتمع الاردني ولمجتمعات اللاجئين فيها، استيقظت ذات يوم وقد تمت تسمية من يحملون شهادات في الحاسوب والمعلوماتية ليشغلوا مدراء لهذه المراكز في انتهاك لأبسط قواعد العمل الاكاديمي في العالم، وبما يشكل تدميرا عن سابق تصور وتصميم للقيمة العلمية وحتى المالية المضافة الذي يمكن لهذه المراكز البحثية أن ترفد الجامعة والمجتمع الاردني الكبير به.

التشكيلات الأكاديميةالأخيرة، اضافة للتفاصيل المعيبة التي رافقتها، معطوفة على تصريحات معيبة نسبت إلى رئيس مجلس الأمناء بحق أبناء الشهداء، كنا نتمنى لو قام رئيس مجلس الأمناء بدحضها وتفنيدها، زادت المشهد قتامة في واحدة من اكبر الجامعات في بلادنا الحبيبة. فبعد أشهر طويلة من أزمات متلاحقة داخل رئاسة الجامعة تجلت بتقديم العديد من الاستقالات تقدم بها مستشار رئيس الجامعة، وأحد نواب الرئيس احتجاجا على المسارات الخاطئة التي تسير بها إدارة الجامعة، جاءت التشكيلات لتقول أن الأصعبوالأكثر قتامة في مسيرة الجامعة لم يأت بعد، وأننا في الطريق حتما إليه.

في عمل بعض المجالس التي تدير المؤسسات في بلادنا باتت بعض جلسات هذه المجالس هي أقرب إلى حفل لتحصيل الغنائم واقتناصها من قبل الساعين للكرسي وللمواقع القيادية، منها إلى جلسات مؤسسية لتكريس مبادئ المواطنة والمواطنية. وباتت جلساتها أيضا بمثابة حفل لتوزيع الغنائم والأعطيات من قبل رئاسات هذه المجالس وبعض أعضائها على من يرتبطون بهم بعلاقات المصلحة أو العائلة او العشيرة أو المنطقة وبما يخالف بالمطلق منطق الدولة والمواطنية والدستور والقانون. وهو ما يحملنا على القول مرة أخرى أن الجامعات في بلادنا لم تعد هي من تقود المجتمع الكبير من حولها، ولم تعد الجامعات أداة للتحديث والعصرنة، ولم تعد الجامعات تقدم للمجتمعات هرميات حداثية وعصرية بل باتت تعيد إنتاج نفس الهرميات التقليدية وحيث شيخ العشيرة أو الحارة والسياسي المتنفذ هم من ينتجون الهرميات داخل الجامعة بدلا من أن تقدم الجامعة للمجتمع عناصرهالأكثر كفاءة وقدرة على القيادة والإدارة بعد أن تقوم الجامعة نفسها بترتيب هذه العناصر حسب ما تمتلك من خبرات ومهارات ومعارف.
 
تابعو الأردن 24 على google news