تقمص الصراع» خطر على بلادنا
أفهم بأن وسائل الاعلام في بلادنا - وكذلك النخب السياسية - لا تستطيعان الالتزام “بالصمت” ازاء ما حدث في مصر، لكن ما لا افهمه هوأن “يتقمص” الطرفان حالة الصراع هناك، ويفرضانها بالتالي على مجتمعنا، وكأن بلادنا “نسخة” مطابقة تماما، لمصر، او كأن الصراع بين الاسلاميين ومؤيدي النظام وبين اليساريين وحلفائهم هناك بمثابة “بروفة” لما يحدث او يمكن ان يحدث لدينا.
لا شك بأن هناك خطأ في “المقارنات” والمقاربات وفي الفهم ايضا، لكن الاخطر منه هو “توظيف” هذا الخطأ لاغراض غير بريئة، واستخدامه “لتأسيس” صورة مغلوطة عن صراع وهمي بين ثنائيات داخل مجتمعنا، وان اردت الدقة اكثر فان هذا التوظيف الذي يمارسه البعض للاستفادة من “الانقلاب” على الاخوان في مصر يستهدف اعادة “شيطنة” الحركة الاسلامية في بلدنا، وخلق انطباعات بان ما فعله “الاخوان المصريون” لا يختلف ابدا مع ما يمكن ان يفعله الاخوان الاردنيون.. وبالتالي فان المطلوب هو ان نعتبر مما حدث، ويا ليت ان هذه الدعوة للاعتبار منصفة وغير منحازة، او انها تحث على “التوافق” لتجنب تكرار ما حدث في مصر، ولكنها - للاسف - تعتمد التحريض واشاعة الكراهية ضد “الاسلاميين” تحديدا، بحجة انهم “اصل الشر” وبأن اقصاءهم هو الحل، وبانه يجب ان “نتغدى عليهم قبل ان يتعشوا علينا”.
على الطرف الاخر يخطئ الاسلاميون في بلدنا حين يضعون “الحدث المصري” اولوية ينشغلون بها، او يعتبرونها من اهم “معاركهم”، تماما كما فعل اليساريون لدينا حين حولوا “الازمة السورية” وانحيازهم للنظام ضد الثورة “مسطرة” يقيسون عليها مواقفهم من كل ما يحدث حولهم، حيث اعتبروا ان من يقف مع النظام - مهما كان - هو حليف وصديق لهم ومن يقف ضده فهو خصم لهم.. مما افضى الى ما نشهده من انقسامات ومن تعطيل “لحركة الاصلاح” ومن استقواءات بالاجنبي وحروب وصراعات بين ابناء البلد الواحد والدين الواحد.
إذا أردنا أن نفهم هذا “التقمص” الذي تمارسه النخب للازمات والاحداث التي تقع خارج حدودنا، سواء في مصر او سوريا، فان من واجبنا ان نعترف بان غياب المشروع الوطني الذي يفترض ان يشكل اولوية لنقاشاتنا العامة وعلاقات النخب مع بعضها قد دفع هؤلاء الى “البحث” عن مشروعات اخرى، قومية او اممية، فانشغلوا بها على حساب قضاياهم الوطنية، كما ان افتقادنا “للرموز” الوطنية “الفردية والمؤسسية” التي يفترض ان تشكل “عامل” توافق واتهام دفع بعض هؤلاء ايضا الى “الدوران” حول “رموز” يتماهون معها فكريا وسياسيا اومصلحيا، اضف لذلك ان حالة “الفقر السياسي” وعدم وجود حيوية سياسية في المجتمع اضطر الاطراف الى ممارسة هوايات “الصراع” والتجاذب في “حياة” سياسية اعمق، وفي مجتمعات اكثر حيوية، وكأنهم قد هربوا من مواجهة المشكلة التي هم جزء منها وسبب فيها، الى “الانخراط” في مشكلات الاخرين والانقسام حولها، ومحاولة نقل عدواها الى داخل مجتمعنا.
لقد دفعت بلادنا فيما مضى من عقود “ضريبة” الصراعات والانقلابات التي جرت في البلدان المجاورة، وخرجت الاحزاب التي تشكلت في مجتمعنا من “عباءة” هذه الصراعات، لدرجة ان لكل حزب من احزابنا “باستثناءات قليلة” مرجعيته الفكرية والسياسية المرتبطة بالخارج، وكأن بلدنا لا يستحق ان يكون “مرجعية” واولوية ومجالا عاما للنقاش، ومن أسف اننا ما نزال نسير على هذا الخط، ومن يشك في ذلك فعليه ان يتابع “حالة” الانقسام التي ابتلينا بها حول “الازمتين السورية والمصرية” ومحاولات التحشيد و”التقمص” التي نمارسها تجاه قضايا لا تشكل اولويات حقيقية ووطنية لنا، بل انها على العكس تماما، تشكل “صواعق” للانفجار والانقسام واشاعة اجواء الكراهية داخل مجتمعنا.
باختصار، ما يحدث في مصر او سوريا او غيرهما من اقطارنا العربية يهمنا ويؤثر علينا، لكنه ليس “اولوية” لكي ننشغل به على حساب اولوياتنا الوطنية، وليس “مدعاة” لوضع مقارنات وهمية تؤدي الى صناعة “انحيازات” للعبث بأمننا واستقرارنا، وخلق حالة من الانقسام في مجتمعنا، وليس “مسطرة” لنقيس عليها مواقفنا وتجاربنا وطبيعة العلاقات التي تربط بين مكوناتنا الاجتماعية والسياسية.
إن أسوأ ما يمكن ان نستدعيه هو “استلهام” فشل الاخرين وتوظيفه لحسابات ضيقة، او اعتباره “نموذجا” لاصدار ما يلزم من الاحكام والتصنيفات والانحيازات التي لا تصب الا في “قناة” المحرمات الوطنية، هذه التي يفترض ان نتوافق جميعا على “إغلاقها” من خلال انضاج مشروع الاصلاح الذي اصبح بحاجة لمن يدفعه للأمام.
(الدستور)