2024-04-24 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

قرارات الإعفاء الأخيرة: التكتيكي والاستراتيجي في ملف التعليم العالي في الاردن

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


بالأمس توج معالي وزير التعليم العالي ومجلس التعليم العالي مسارا طويلا من المراقبة والتقييم لأداء رؤساء الجامعات الحكومية بإصدار قرارات بإعفاء اثنين من رؤساء الجامعات الحكومية من موقعيهما. لن يجد المرء عناء كبيرا ليرصد طبيعة ردود الفعل في أوساط العاملين بالجامعات كما في أوساط الطلبة وأهاليهم والتي كانت في معظمها تعبر عن ارتياح ممزوج بمشاعر الأمل والرجاء أن يكون قرار مجلس التعليم العالي إعلانا بنهاية حقبة وإيذانا ببدء حقبة جديدة مختلفة عما ساد في السنين الماضية التي كانت سنين عجاف في مسيرة التعليم العالي والجامعي في بلادنا.

بعض الجامعات وخصوصا الجامعتين اللتين صدر قرار الإعفاء بحق رئيسيهما كانتا تعيشان واقعا أشبه بمشهد سوريالي منه بواقع بشري واجتماعي. فمديونية جامعة اليرموك مثلا تضاعفت ثلاث مرات بأقل من ثلاث سنين، وبات مسألة إقفال الجامعة بسبب المديونية مسألة أشهر معدودة لو استمر الزواج ما بين رئاسة جامعة تستلذ بالهروب من اتخاذ اصغر القرارات، وامتهنت الاختباء في قراراتها وراء من هم أعلى منها في مجلس الأمناء أو من هم أدنى منها رتبة في السلم الإداري للجامعة، وما بين موظف إداري تضخم دوره ليصبح هو الأمر الناهي في الجامعة، وما بين أطراف من خارج الجامعة بات واضحا أنها مستفيدة من وجود رئاسة لا تقوى على اتخاذ القرارات مهما صغر شأنها.

فبعد عقود واعدة من مسيرة الجامعة التي كان تأسيسها حدثا ثوريا بالمعنى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والحضري والمعرفي في محافظة اربد، وبعد أن تعاقب على رئاسة الجامعة من كان يحرص على أن يبحث عن اكبر الأسماء من علماء العالم ليجلبهم للتدريس فيها، وبعد أن تعاقب على رئاسة الجامعة من أدرك معنى أن تكون رئيس جامعة في مدينة غير العاصمة وحيث رئيس الجامعة هو ركن أساسي من النخبة التي تقود على مستوى المحافظة، فقرر وبمجرد صدور قرار تعيينه أن يترك سكنه في العاصمة ليعيش هو وزوجته في مدينة اربد وحيث دانت له الجامعة بمشروع عملاق للمكتبة، ودانت له بأكبر خطة لتحسين أوضاع العاملين فيها، وحيث ازدهر النشاط البحث والتشبيك الجامعي مع الإقليم، وجد العاملون في الجامعة أنفسهم يعيشون في جامعة غير تلك التي عرفوها وأحبوها.

قرار مجلس التعليم بالأمس وإن كان يمثل خطوة كبيرة ولا يمكن أن تمر دون أن نسجل كل مشاعر التقدير والاحترام لمجلس التعليم العالي ولكل الجهات الرقابية الأخرى في أجهزة الدولة التي تكاتفت كي تصل عملية تقييم رؤساء الجامعات إلى هذه النهاية الموفقة، إلا إنه يجب أن يتم إدراكها ورؤيتها وتمثلها من قبل صناع القرار في الدولة على أنها ليست هدفا بحد ذاته، وليست نهاية القرارات، وليست أم المعارك التي خاضها مجلس التعليم العالي وأجهزة الدولة، بل هي مجرد خطوة تمهيدية بل وتكتيكية أصابت هدفا وحققت جملة من الأهداف التكتيكية المتعلقة بالتعليم العالي بل وبعمل أجهزة الدولة عموما. القرار كان بالتأكيد مصيبا تكتيكيا إلا أن الخلط بين التكتيكي والاستراتيجي هو ما ينبغي الحذر من الوقوع فيه.

تغيير رئيس جامعة والقدوم بآخر، وإزاحة شاغل لكرسي من موقعه إفساحا للمجال كي يأتي شخص آخر طامح في الموقع، ليس هو المبتغى وليس هو المراد، وهو لا يمكن أن يمثل ردا استراتيجيا على المشاكل المتفاقمة التي يغرق بها قطاع التعليم العالي والجامعي في الأردن، وهو قطاع حقق بالتأكيد الكثير من النجاحات في بلد بنيت أول جامعة فيه قبل نصف قرن ونيف مقارنة ببعض بلاد العالم التي عرفت الجامعات منذ أكثر من ثمانية قرون.

إدراك القرار وتمثله على أنه مجرد خطوة تكتيكية سوف يعني تلقائيا أن قرار الإعفاء يجب أن تتبعه سلسلة كبيرة من القرارات المتعلقة بإصلاح مسيرة التعليم العالي الذي غرق في السنوات الأخيرة بأزمة هي في العمق أزمة أخشى أنها باتت أزمة بنيوية ما يعني أن أي عمليات إصلاح لهذا القطاع باتت أكثر صعوبة واستعصاء، وباتت تحتاج إلى قرارات كبيرة يتخذها عقل الدولة وليس مجرد قرارات متناثرة وبالمفرق يتخذها أشخاص يجتهدون على طريقتهم ووفق قدراتهم ووفق مصالحهم الذاتية والضيقة في أحيان كثيرة.

الانتقال من قرارات "الشخص" الذي يجتهد على طريقته إلى قرارات يتخذها "عقل الدولة" بات أكثر من ضرورة بل بات مسألة حياة أو موت لقطاع التعليم العالي في بلادنا الحبيبة والعزيزة بل وللدولة نفسها. الانتقال من قرارات "الشخص" إلى قرارات يتخذها "عقل الدولة" هو الضبط ما نعنيه بالانتقال من التكتيكي إلى الاستراتيجي في معالجة ملفات قطاع التعليم العالي.

ربما من نافلة القول أن أولى خطوات الانتقال من التكتيكي إلى الاستراتيجي يستلزم تغييرا استراتيجيا في النظرة التعليم والمدرسة والجامعة وإلى موقعها داخل نسيج الدولة وإلى دورها في إنتاج الدولة وإعادة إنتاجها. وهنا أستحضر واحدة من أهم مقولات عالم الاجتماع الفرنسي الشهير الذي ما فتئ يؤكد أن الدولة الحديثة وعلى خلاف الدولة القديمة التي كانت نتاجا لقوة السيف ونبالة الفرسان الذين يحملون هذا السيف ليرسموا حدود الدولة والملك بالقوة والسيف والدم، فإن الدولة الحديثة هي نتاج لنبالة الثوب أو الرداء الجامعي، وحيث بات أستاذ الجامعة وجيش الباحثين في الجامعة هم من يصنعون الدولة وحدود قوتها وحدود انتشار نفوذها وتأثيرها وسطوتها. والحال، فان تمثل الجامعة وإدراكها على أنها هي مصنع الدولة الحقيقي سوف يفضي حتما إلى عقل أكثر إستراتيجية في إدارة قطاع التعليم العالي بل والتعليم برمته.

تمثل الجامعة وإدراكها على أنها المصنع الحقيقي للدولة، سوف يفضي حتما إلى إعادة ترتيب الأولويات على المستوى الوطني برمته، ما يعني حتما تغيرا في أولويات الإنفاق، فلا يمكن لأي دولة أن تحقق الأمن ان هي أنفقت على الأمن وأجهزة الأمن على أهميتها وجلال قدرها ومكانتها، أكثر من ثلاثين ضعف ما تنفقه على التعليم العالي. التجربة التاريخية في هذا الكون الواسع تثبت كل يوم أن صناعة الأمن الوطني داخليا وحماية حدود الوطن من أعداء الخارج هو مسؤولية رجل الدين والقاضي ورجل الاقتصاد والإعلام وأستاذ الجامعة بنفس القدر وربما أكثر من حيث هو مسؤولية رجل الأمن.

لا يمكن لأي إنفاق على أجهزة الأمن في أي بلد في العالم أن يحقق وحده الأمن للدولة والمجتمع، إذا كانت منظومة القيم والأخلاق السائدة فاسدة ومعادية للدولة والمجتمع، وترى في نهب المال العام عملا بطوليا بل وخيريا، ولا يمكن لأي جهاز أمن في العالم أي يحقق الأمن في بلد انعدم فيه رأس المال البشري وبات معظم أفراده عاطلين عن العمل يشعرون بالحرمان والتهميش والكراهية للدولة وللمجتمع. الجامعة فقط هي من يمكن أن تبني منظومات الأخلاق وهي من تبني رأس المال الاجتماعي والاقتصادي، وهي بالتالي المصنع الأول لأمن المجتمع والدولة. المنطق والواقع يقولان انه ومهما كان رجل الأمن بارعا ومهنيا، فلن يستطيع تحقيق الأمن إذا كان رجل الدين والمعلم والمهندس والمحامي والطبيب فاسدا وغير منتج.

وفي موضوعة الانتقال من التكتيكي إلى الاستراتيجي ينبغي اتخاذ قرارات كبيرة تتعلق بشكل وعمل مؤسسات التعليم العالي وهياكله الحالية. صحيح أن هياكل التعليم العالي في بلادنا تحاكي في الشكل أفضل ما هو موجود عالميا، ولكن في مجتمع ما زالت الروابط العشائرية والشللية والمناطقية والاقليمية وليست روابط "المواطنة" هي التي تحكم الشخص، فان هذه الهياكل تصبح فارغة من مضمونها بل أنها بشكلها الحالي باتت تلعب دورا سلبيا وفي أحيان كثيرة تخريبيا في مسيرة التعليم العالي.

ومن شروط التحول من التكتيكي إلى الاستراتيجي هو تولد إدراك لدى صانع القرار بان الجامعة والبحث العلمي باتا هما ثروة الأمم The wealth of Nation الحقيقية في هذه الحقبة من التاريخ الإنساني. فبعد أن كانت ثروة الأمم في أثينا ومصر القديمة وإسبارطة وروما تقاس بعدد العبيد القادرين على توفير قوة العمل في الأرض، صارت الأرض وخصوبتها هي مصدر الثروة في القرون اللاحقة كما يعتبر الفيزيوقراط وحيث ساد الإقطاع الأوروبي، ثم كان المصنع والآلة وكم السلع التي ينتجها هي ثروة الأمم الحقيقية في حقبة الصعود الرأسمالي. وفي عصرنا الحالي باتت المعلومات والمعرفة من حيث الكم والنوع والقدرة على نشرها وتداولها واختراع تطبيقات عملية ونفعية لها هي مصدر ثروة الأمم. عدم إدراك موقع الجامعة في اقتصاد العصر هو بالقطع شرط للانتقال من التكتيكي إلى الاستراتيجي في إدارة قطاع التعليم العالي في البلاد.

إن وجود وزارة للتعليم العالي، إضافة لمجلس للتعليم العالي مضافا إليه هيئة الاعتماد، مضافا إليه مجالس الأمناء مضافا إليه مجالس الجامعات، مضافا إليه مجالس العمداء، وحيث كان الحكمة من بعضها استراتيجي يتعلق برسم السياسات والأهداف العامة لقطاع التعليم باعتباره واحدا من قطاعات الدولة، وحيث كانت الحكمة من بعضها الآخر هو الرقابة العامة على عمل الجامعات، وحيث أنيط بالبعض الآخر أدوار تكتيكية يتعلق بتنفيذ السياسات والأهداف العامة الموضوعة سواء على مستوى ماكروي أو مايكروي. إن وجود هذا الهياكل وهذه البنى التي تشرف وتدير وتنفذ مجمل أنشطة التعليم العالي يجعل من التعليم العالي حقلا يسوده الفوضى إذا لم يتم الانتقال بكل هذه الهياكل من حقل الاجتهاد الفردي إلى حقل "عقل الدولة" وحيث لا مكان للفرد ونزواته ومصالحه في عملية اتخاذ القرار.

بعض مظاهر أزمة الجامعات البنيوية يتجلي في عدم وضوح الأدوار المناطة بكل جهة من هذه الجهات التي بات بعضها يمارس الدور الرقابي بدلا من الدور الاستراتيجي المناط به في رسم السياسات، وبات بعضها وبدلا من ممارسة دور صناعة السياسات وممارسة الرقابة العامة على مستوى الجامعة، بات يحل مكان رئاسة الجامعة ويتدخل في قرارات تعيين مدراء الدوائر ويعطي أسماء بعينها لتشغل مواقع داخل الجامعة، بل أن دور جلسات بعض مجالس الأمناء وبدلا من أن تكرس لمناقشة الاستراتجيات المايكروية لقطاع العليم المسئول عنه (الجامعة)، وبدلا من تخصيص الساعات الطوال لجلب المصادر المالية للجامعة، وبدلا من مناقشة ملفات جودة التعليم والتشبيك الدولي للجامعة، والدور المجتمعي للجامعة، باتت جلسات مجالس الأمناء هذه أشبه بحفلات لتوزيع الغنائم التي يدفعها في النهاية دافع الضرائب الأردني من جيبه وعرقه وتعبه.
 
تابعو الأردن 24 على google news