2024-04-24 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

تأملات في التشكيل الأخير لمجلس الأعيان: الدولة إذ تسنسل نفسها.. كما أزماتها

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


قبل أيام صدرت الإرادة الملكية السامية وتم الإعلان عن التشكيلة الجديدة لمجلس الأعيان والذي يشغل موقعا مركزيا في المشهد السياسي الأردني، كما يلعب دورا محوريا على صعيد إنتاج الدولة الأردنية وإعادة إنتاجها، بالنظر إلى أن مجلس الأعيان يشكل الغرفة أو الهيئة الأعلى في تراتبية الجهات التشريعية الأردنية ويما يتيح له الإمساك بطبيعة كل التشريعات المتعلقة بالمجتمع الأردني وفلترتها قبل أن تصيح قوانين نافذة على الأرض في الاقتصاد كما في السياسة كما في التعليم والصحة.

تشكيلة المجلس تزخر بالكثير من الأسماء ذات الخبرة والتاريخ الطويل في العمل العام داخل أذرع الدولة الأردنية. وشغل معظم مقاعد المجالس بيروقراط متقاعدون سبق أن عملوا في أجهزة الدولة، كما اشتملت التشكيلة على بعض الأسماء الجديدة –وإن كانت قليلة ومعدودة- ممن لم يعملوا في أجهزة الدولة. التشكيلة في معظمها إن لم تكن في مجملها تعكس تشكيلة محافظة وغير تجديدية، إذ أنها أتت في المجمل من ذلك المخزون البيروقراطي للدولة الأردنية سواء ممن لا زالوا عاملين فيها او ممن يعيشون سني تقاعدهم. وكأن المهمة هي إعادة الإنتاج للدولة لا إنتاج شكل جديد لها، وكأن المهمة هي استنسال للدولة وهياكلها ووظائفها وليس إحداث قطع او تغيير او تعديل في المسارات الكبرى والاستراتيجيات الكبرى للدولة في بلادنا الحبيبة التي باتت تعيش ازمات اقتصادية وسياسية واجتماعية خطيرة جدا.

ندرك تماما حجم الهواجس والضغوط على صانع القرار في البلاد، الذي يود من جهة؛ المحافظة على الدولة ووجودها في عالم بات يعج بالفوضى والخراب والحروب بالجملة، كما ندرك حجم الضغوط التي يتعرض لها صانع القرار من كتل البيروقراط الأردني ممن شغلوا مواقع هامة داخل الدولة وأحيلوا للتقاعد في سن مبكر، ويود صانع القرار أن يشعرهم أنهم ما زالوا في قلب صناعة القرار الأردني، وفي قلب الحياة السياسية من خلال شمول أكبر عدد من البيروقراط في قوائم تشكيلة مجلس الأعيان. وخصوصا، بعد أن ارتفعت في السنين الاخيرة أصوات الكثير من البيروقراط المتقاعدين الذين باتوا يعيبون على الدولة تهميشهم وعدم الاستماع لصوتهم، وعدم الأخذ بمخزون خبراتهم، وصولا إلى حديث البعض عن تفكيك الدولة وضرب بنيانها.

في هوية القوى الضاغطة التي تقف وراء تشكيلة المجلس أخشى أن يكون ورثة نظرية سياسات الأعيان Policies and politics of Notables ذات الجذور الاستشراقية التي تقول بأنه وفي حال المجتمعات العربية الإسلامية فليس مطلوبا من الدولة أن تتغلغل بسياساتها الصحية والاقتصادية والدينية والاجتماعية فتصل إلى أدق الفضاءات والممارسات الاجتماعية كي تشكلها، وكي تكتسب شرعيتها، وهو ما يستنزف الوقت والمال والجهد لصانع السياسة وللدولة، بل يكفي للدولة أن تصل إلى الأعيان من شيوخ للقبائل والطوائف وزعماء القرى فتسترضيهم بالوسائل التي يحبونها، وسيتكفل هؤلاء بتامين ولاء أعضاء عشائرهم وقراهم وطوائفهم للدولة. سياسات الأعيان أو Notables كانت في قلب السياسات الاستعمارية البريطانية كما العثمانية في تعاملها مع مجتمعات العالم العربي التي قال عنها هيجل ذات يوم أنها ليس ب"مجتمعات" بل هي رقع من العشائر والطوائف والجماعات التي تفتقر لكل أشكال المجتمع المدني الحديث.

نظرية سياسات "الاعيان" التي تم تبنيها على مدى قرون من الحكم العثماني والبريطاني في المنطقة أثبتت فعاليتها في حينها، ولكنها لم تعد صالحة وذات نجاعة في الوقت الراهن، وهي بالتأكيد ليس صيغة للحكم وصناعة القرار في المستقبل. فالتغيرات الهيكلية التي باتت تعيشها المجتمعات العربية وخصوصا المجتمع الأردني الذي شهد أكثر التغيرات الهيكلية تطرفا وفي فترة زمنية هي أيضا الأكثر تطرفا في قصرها. فتشكيلة مجلس الأعيان الأخيرة لا توحي بأنها تمت في العام 2020، بل توحي وكأنها جرت وفق نفس طرائق العمل السياسي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكأن الزمن لم يتحرك وكان الزمن بقي مجرد مساحة من الزمن، ولم يتحول إلى تاريخ.

المجتمع الأردني في العام 2020 الذي بات يعج بالأزمات المعيشية والاجتماعية والأخلاقية، لا يشبه كثيرا مجتمع ما قبل السبعينيات. تحولات هيكلية وبنيوية كثيرة حصلت. فحتى سنوات الستينات كان أكثر من 70 بالمئة من سكان البلاد يعيشون في البادية وفي القرى، اليوم بات أكثر من 80 بالمائة من سكان البلاد يعيشون في المدن. اختفاء القرية والبادية والظهور الطاغي والمعمم للمدينة، يعني انقلابا ثوريا في البني الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقيمية والأخلاقية والمعرفية وحتى الديموغرافية. لن يتسع مقال صحافي لسرد وشرح حتى واحدة من هذه التحولات.

في سبعينيات القرن الماضي كانت بداية رحلة التحولات في المجتمع الأردني. ظهور المدن على حساب القرى والبادية، كان يعني تراجع واختفاء عناصر الاقتصاد الفلاحي والملكية الجماعية للأرض والإقامة المشتركة والجماعية في الحي والحوش والحارة لأعضاء الجماعة، وبما يفرض هيمنة علاقات الوجه للوجه والاتصال الوجاهي. وبما يعني ظهورا لزعيم العشيرة والمختار وحيث تهيمن علاقات الدم وحيث تصنع السياسة ويتم فرض الضبط الاجتماعي. زعيم العشيرة والمختار ومدير المدرسة وشيخ المسجد هم مفاتيح السياسة فعليا على الأرض.

منذ سبعينات القرن الماضي تبدل المشهد الأردني كثيرا، فقد شهدنا ظهورا وتوسعا طاغيا للمدينة، وتراجعا للقرية. كما شهدنا اختفاء للاقتصاد الفلاحي وتوسعا في الاقتصاد الزراعي والخدمي والصناعي، انماط جديدة من السكن والإقامة تطورت، وعلاقات اجتماعية جديدة ظهرت، لم يعد التشارك في علاقات الدم هو من يصنع التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية. في الاقتصاد الفلاحي يتركز الاهتمام على تحقيق مستوى الكفاف، ويتغلب ما هو اجتماعي على ما هو اقتصادي في توجهات المجتمع، وأما في حياة المدينة والصناعة والتجارة يصبح ما هو اقتصادي أكثر أهمية من مما هو اجتماعي بل ومما هو أخلاقي.

التحولات الاقتصادية والحضرية ترافقت مع تحولات ديموغرافية سكانية. فزاد متوسط الأعمار من حوالي الأربعين سنة، إلى حوالي السبعين عاما. ومع هذه التحولات بات أكثر من سبعين بالمائة من أفراد المجتمع هم ضمن فئة الشباب. ومع تطور وسائل الإعلام والاتصال، لم تعد القرى والمدن هي نفسها قبل السبعينيات والثمانينات. الاتصال الوجاهي والسخصي لم يعد ممكنا، وعلاقات الدم لم تعد تملك نفس المركزية والقيمة كما في مجتمعات الفلاحة. لم يعد القائد الذي "يسيس" هو نفسه كما في حقبة ما قبل السبعينات. في أردن القرن الواحد والعشرين، الذي يشكل الشباب حوالي السبعين بالمئة من نسيجه الديموغرافي، لم يعد القدوة الذي "يسيس" على مستوى الجسم الاجتماعي، هو مختار الحارة أو كبير السن أو شيخ العشيرة أو حتى مدير المدرسة أو شيخ المسجد، فالزعيم القدوة الذي "يسيس" باتت أزرار جهاز الخلوي تتكفل باستحضاره من مدن ما وراء البحار ومجتمعاتها.

في مجتمع بات يعيش معظمه في مدن تعيش أقصى درجات العولمة معلوماتيا ولكنها تعيش في أقصى هوامش العولمة اقتصاديا واجتماعيا تكون مهمة السياسة اجتراح أكثر الحلول تعقيدا وثورية وابتكارا للتصدي لكم الإحباط والشعور بفقدان الأمل بالحاضر والمستقبل في أوساط مجتمع باتت العولمة المعلوماتية تجعل أعضائه يعيشون افتراضيا البحبوحة الاقتصادية والحضرية التي تعيشها طوكيو ولندن وباريس ولكنهم في الواقع المعاش يعيشون في هياكل اقتصادية عتيقة ومستويات معيشية تنتمي إلى أوروبا ما قبل التصنيع. العولمة المعلوماتية باتت عاملا للإحباط والرغبة بالتمرد والثورة لدى الأجيال الشابة التي باتت رغبتها في الاستهلاك وفي رغد العيش مستوحاة من رغد العيش الذي يعيشه البرليني والباريسي، وباتت رغبته هذه لا تنتمي مطلقا لمحدودية حجم الثروة ومستويات المعيشة التي يولدها مجتمعه الأردني الذي يعيش فيه.

في تشكيلة مجلس الأعيان الأخيرة، ثمة مفارقة ساطعة وفاقعة. يمكن استخلاصها عند إجراء مقارنة سريعة بين صناعة السياسة في المجتمعات الأوروبية وصناعتها في المجتمع الأردني. ففي المجتمع الأردني الذي يتشكل في حوالي السبعين بالمائة منه من فئة الشباب والذين هم الأكثر عولمة معرفيا ولكنهم الأكثر إحساسا بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فان من يهيمن على الحياة السياسية وبشكل مطلق هم من فئة الشيوخ وكبار السن. وهو ما بدا جليا في تشكيلة مجلس الأعيان، كما هو عليه الأمر في البرلمان وفي مجلس الوزراء.

وأما في المجتمعات الأوروبية الحداثية بل والتي تعيش حقبة ما بعد الحداثة والتي تعتبر مجتمعات مسنة وعجوزة ديموغرافيا، إذ إن أكثر من سبعين بالمائة من سكانها هم ليسوا من فئة الشباب بل ممن تتجاوز أعمارهم الخمسين عاما إلى الحد الذي باتت فيه هذه المجتمعات مهددة بالزوال، فان من يصنع السياسة فيها هم الشباب. ففي فرنسا يتم انتخاب رئيس للبلاد بعمر ال 39 عاما، في حين يسيطر الشباب على مجلس الوزراء والبلديات والبرلمان. وفي النمسا التي تملك واحدة من أفضل اقتصاديات العالم، كما تملك نموذجا اجتماعيا وثقافيا رائدا يتم انتخاب شاب بعمر الواحد وثلاثين عاما ليشغل موقع المستشارية، وهم ما يوازي موقع رئيس الوزراء في بلادنا. واما في الدول الاسكندينافية التي تعج بكبار السن بسبب تحسن مستويات المعيشة، وهي المجتمعات التي قدمت للبشرية أفضل نموذج في دولة المواطنة وحقوقها، فتصل شابة بعمر الثلاثين عاما لرئاسة الدولة في فنلندا، كما تشغل نساء في عمر العشرينيات معظم المواقع الوزارية ومقاعد البرلمان في مملكة السويد التي تملك واحدا من أفضل نماذج الدولة في العالم.
 
تابعو الأردن 24 على google news