لماذا تعثرت «ثوراتنا» وحراكاتنا؟!
حسين الرواشدة
جو 24 : هل صحيح أن “مجتمعاتنا” العربية لم تنضج بما يكفي للانتقال الى الديمقراطية؟ وهل ما انجزته هذه المجتمعات من خلال ثوراتها او احتجاجاتها من “هدم” لبعض بُنى الانظمة القائمة ثم عجزها عن بناء ما نهضت من أجله يؤكد هذه الفرضية، او انه يشير بوضوح الى ان هذه المجتمعات لم تتوافر لديها “الاوعية” الثقافية التي تتناسب مع مفهوم الثورة واستحقاقاتها لكي تبني نفسها من جديد، او تعيد “تركيب” ذاتها كما تريد؟
لقد خضعت مجتمعاتنا على مدى سبعة قرون على الاقل لجملة من العوامل التي كرست داخلها مفهوم “التخلف” والعطالة الحضارية والاستبداد، وعانت من تركة ثقيلة عمقت داخلها الانقسام والكراهية وهواجس الخوف من الآخر وعقدة الشعور “بنقص” الذات، صحيح أنها شهدت في مراحل مختلفة دعوات للاحياء والصحوة والنهضة، وخاضت معارك متعددة للخلاص من استعمار الاجنبي والوطني ايضاً، لكن الصحيح ايضاً هو ان هذه المحاولات انحصرت في “النخب” ولم تتغلغل داخل المجتمع، مما افقدها القدرة على “التغيير” وأغرى الآخر بالانقضاض عليها او احتوائها.
على عكس ما حدث لدينا، كانت الثورات التي شهدتها اوروبا وامريكا خرجت من “رحم” مرحلة التنوير التي قادتها نخب فكرية ودينية وسياسية “لاصلاح” المجتمع وترميم افكاره ومؤسساته المختلفة؛ ما اتاح لهذه الثورات ان تقوم على أساس “ارضيات” اجتماعية وفكرية ودينية صالحة لنمو، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته هذه الشعوب لانجاز النهضة بعد الثورة..
لا شك بأن لدى امتنا مخزوناً “تارخياً” يمكن ان يؤسس لمفهوم التغيير، رغم قلة خبرتنا في “فقه الثورات” لأسباب سياسية ودينية مفهومة، لكن هذا المخزون تعرض لمحاولات جادة من التهميش والتشكيك والاقصاء، ولم تنجح النخب بأنواعها في تجديده او اعادة الروح اليه لكي يمشي على قدميه وسط المجتمعات التي ظلت تعاني من حالة الصراع الوهمي بين “وسطاء” سياسيين وفكريين استقطبتهم مواجهات البحث عن المصالح والتناوب على التقرب من السلطة ومن الاجنبي واشغلتهم بالتالي عن الاقتراب من قضايا الناس وهمومهم والتماهي مع مطالبهم وحقوقهم.
في أنموذج الثورات الغربية كان الصراع الذي خرجت منه الثورات يراوح بين الديني والسياسي، وقد نجح السياسي – اخيراً – في تحييد الدين، والاطاحة “بالكنيسة”، ولم يكن بوسع قطار “النهضة” هناك ان ينطلق الا بعد ان قسم هذا الصراع، لكن هذا الأنموذج من الصراع وان بدا حاضراً في مشهد ثوراتنا وحراكاتنا العربية وفق ثنائية الدولة والاسلام السياسي فانه لا يتطابق تماماً مع الأموذج العربي نظراً لدور الدين ومكانته داخل مجتمعاتنا، إذْ لا أحد يمكن أن يشكك بأن الدين هو الباعث الاول “للتحضر” وبأنه – اصلاً – لا يتعارض مع مفهوم التغيير، بل على العكس، فانه يدعو اليه ويحث عليه.
اللافت هنا هو أن ثمة عوامل مختلفة تضافرت للحيلولة دون تحول “التدين” الى “تحضر” او بمعنى آخر تكريس حالة التدين المغشوش الذي أعاق حركة المجتمع، وشوه صورة “العمل السياسي” متى كان محسوباً على خط “الاسلام” بمختلف تياراته، لدرجة أصبح البعض يخشى من ان تتحول حالة “الاستعداء” التي تمارس ضد الاسلام السياسي الذي وصل للحكم فعلاً الى الاستعباد ضد الدين نفسه، وان تتكرر بالتالي نسخة الدعوة الى “الانفصال” بين الدين والسياسة امتثالاً لتجربة الآخرين.
قد يتحمل “الديني” بحركاته ودعواته وخطابه العام قسطاً كبيراً من مسؤولية “العجز” في تهيئة المجتمعات لعبور مرحلة الكبوة نحو النهضة من خلال “رعاية” تربة “التدين” على أسس صحيحة ومنتجة وخالية من الاشواك ، ولو فعل ذلك في الوقت الذي يتصاعد فيه الطلب على “الدين” وسط المجتمعات المتدينة اصلاً لما وصلنا الى هذه القطيعة التي خرج فيها بعض الناس ضد “الاسلاميين” او انقسموا بين مؤيد ومعارض حضور الديني في المشهد.
لكن الديني وحده لا يتحمل كل هذه المسؤولية، فقد أسهمت الانظمة الحاكمة بفسادها واستبدادها في “تهديم” قيم المجتمع وتفكيك بناه الحية، واشاعة ثقافة جديدة على “مقاسات” تدين يخدم مصالحها، وقيم تعزز انحرافاتها كما أسهم الآخر الاجنبي عبر عقود من الاستعمار المباشر وغير المباشر ومن الغزو الثقافي والسياسي في “تشويه” هذه المجتمعات واخضاعها لمصالح شركاته وقيمها وحكوماتها بذريعة “التحضر” او التقدم او غيرهما.
في ضوء ذلك، لا يمكن لاحدنا ان ينتظر من الثورات العربية والحراكات التي تدعو للاصلاح أن تنجز مهمة “التحول” الديمقراطي في سنوات قليلة، لكن فضيلتها الكبرى هي أنها “حركت” الوعي داخل هذه المجتمعات وأعادت اليها روح التغيير والتفكير في مستقبلها المضمون فقط بالديمقراطية والعدالة.. ولا يشك بأن رحلة الشعوب على هذا الطريق لن تكون سهلة وقصيرة، كما ان التحديات التي تواجه من يتقدم صفوتها، سواءً أكان محسوباً على الحظ الديني ام المعارض له، ستكون كبيرة، وبالتالي علينا ان ننتظر جولات متعددة من “التحولات” والتجارب لكي نضمن بأن مجتمعاتنا تحررت من تركة الماضي ومن هواجس الحاضر، بانقساماته وتدخلات الاخر فيه؛ لكي تصنع “نهضتها” على مقاساتها التي تريدها.
(الدستور)
لقد خضعت مجتمعاتنا على مدى سبعة قرون على الاقل لجملة من العوامل التي كرست داخلها مفهوم “التخلف” والعطالة الحضارية والاستبداد، وعانت من تركة ثقيلة عمقت داخلها الانقسام والكراهية وهواجس الخوف من الآخر وعقدة الشعور “بنقص” الذات، صحيح أنها شهدت في مراحل مختلفة دعوات للاحياء والصحوة والنهضة، وخاضت معارك متعددة للخلاص من استعمار الاجنبي والوطني ايضاً، لكن الصحيح ايضاً هو ان هذه المحاولات انحصرت في “النخب” ولم تتغلغل داخل المجتمع، مما افقدها القدرة على “التغيير” وأغرى الآخر بالانقضاض عليها او احتوائها.
على عكس ما حدث لدينا، كانت الثورات التي شهدتها اوروبا وامريكا خرجت من “رحم” مرحلة التنوير التي قادتها نخب فكرية ودينية وسياسية “لاصلاح” المجتمع وترميم افكاره ومؤسساته المختلفة؛ ما اتاح لهذه الثورات ان تقوم على أساس “ارضيات” اجتماعية وفكرية ودينية صالحة لنمو، على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعته هذه الشعوب لانجاز النهضة بعد الثورة..
لا شك بأن لدى امتنا مخزوناً “تارخياً” يمكن ان يؤسس لمفهوم التغيير، رغم قلة خبرتنا في “فقه الثورات” لأسباب سياسية ودينية مفهومة، لكن هذا المخزون تعرض لمحاولات جادة من التهميش والتشكيك والاقصاء، ولم تنجح النخب بأنواعها في تجديده او اعادة الروح اليه لكي يمشي على قدميه وسط المجتمعات التي ظلت تعاني من حالة الصراع الوهمي بين “وسطاء” سياسيين وفكريين استقطبتهم مواجهات البحث عن المصالح والتناوب على التقرب من السلطة ومن الاجنبي واشغلتهم بالتالي عن الاقتراب من قضايا الناس وهمومهم والتماهي مع مطالبهم وحقوقهم.
في أنموذج الثورات الغربية كان الصراع الذي خرجت منه الثورات يراوح بين الديني والسياسي، وقد نجح السياسي – اخيراً – في تحييد الدين، والاطاحة “بالكنيسة”، ولم يكن بوسع قطار “النهضة” هناك ان ينطلق الا بعد ان قسم هذا الصراع، لكن هذا الأنموذج من الصراع وان بدا حاضراً في مشهد ثوراتنا وحراكاتنا العربية وفق ثنائية الدولة والاسلام السياسي فانه لا يتطابق تماماً مع الأموذج العربي نظراً لدور الدين ومكانته داخل مجتمعاتنا، إذْ لا أحد يمكن أن يشكك بأن الدين هو الباعث الاول “للتحضر” وبأنه – اصلاً – لا يتعارض مع مفهوم التغيير، بل على العكس، فانه يدعو اليه ويحث عليه.
اللافت هنا هو أن ثمة عوامل مختلفة تضافرت للحيلولة دون تحول “التدين” الى “تحضر” او بمعنى آخر تكريس حالة التدين المغشوش الذي أعاق حركة المجتمع، وشوه صورة “العمل السياسي” متى كان محسوباً على خط “الاسلام” بمختلف تياراته، لدرجة أصبح البعض يخشى من ان تتحول حالة “الاستعداء” التي تمارس ضد الاسلام السياسي الذي وصل للحكم فعلاً الى الاستعباد ضد الدين نفسه، وان تتكرر بالتالي نسخة الدعوة الى “الانفصال” بين الدين والسياسة امتثالاً لتجربة الآخرين.
قد يتحمل “الديني” بحركاته ودعواته وخطابه العام قسطاً كبيراً من مسؤولية “العجز” في تهيئة المجتمعات لعبور مرحلة الكبوة نحو النهضة من خلال “رعاية” تربة “التدين” على أسس صحيحة ومنتجة وخالية من الاشواك ، ولو فعل ذلك في الوقت الذي يتصاعد فيه الطلب على “الدين” وسط المجتمعات المتدينة اصلاً لما وصلنا الى هذه القطيعة التي خرج فيها بعض الناس ضد “الاسلاميين” او انقسموا بين مؤيد ومعارض حضور الديني في المشهد.
لكن الديني وحده لا يتحمل كل هذه المسؤولية، فقد أسهمت الانظمة الحاكمة بفسادها واستبدادها في “تهديم” قيم المجتمع وتفكيك بناه الحية، واشاعة ثقافة جديدة على “مقاسات” تدين يخدم مصالحها، وقيم تعزز انحرافاتها كما أسهم الآخر الاجنبي عبر عقود من الاستعمار المباشر وغير المباشر ومن الغزو الثقافي والسياسي في “تشويه” هذه المجتمعات واخضاعها لمصالح شركاته وقيمها وحكوماتها بذريعة “التحضر” او التقدم او غيرهما.
في ضوء ذلك، لا يمكن لاحدنا ان ينتظر من الثورات العربية والحراكات التي تدعو للاصلاح أن تنجز مهمة “التحول” الديمقراطي في سنوات قليلة، لكن فضيلتها الكبرى هي أنها “حركت” الوعي داخل هذه المجتمعات وأعادت اليها روح التغيير والتفكير في مستقبلها المضمون فقط بالديمقراطية والعدالة.. ولا يشك بأن رحلة الشعوب على هذا الطريق لن تكون سهلة وقصيرة، كما ان التحديات التي تواجه من يتقدم صفوتها، سواءً أكان محسوباً على الحظ الديني ام المعارض له، ستكون كبيرة، وبالتالي علينا ان ننتظر جولات متعددة من “التحولات” والتجارب لكي نضمن بأن مجتمعاتنا تحررت من تركة الماضي ومن هواجس الحاضر، بانقساماته وتدخلات الاخر فيه؛ لكي تصنع “نهضتها” على مقاساتها التي تريدها.
(الدستور)