اختلاط الحابل بالنابل.. شعار مصر بعد الانقلاب على مرسي
رنا الصباغ
جو 24 :
اختلاط الحابل بالنابل، وفقدان الذاكرة الجمعية، باتا يسيطران على المشهد المصري منذ عزل الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي، قبل أسبوعين.
وغدا الفكر "المكيافيلي" مهيمنا على تصرفات النخب السياسية والإعلامية المنقسمة، حال نشطاء المجتمع المدني، ورجل الشارع المشدوه أمام التحولات المتسارعة؛ بين مؤيدي الانقلاب لتخليص مصر من "ظلم الإخوان ومؤامرتهم"، وبين أنصار "الشرعية والشريعة". بل إن مكيافيلي -صاحب نظرية "الغاية تبرر الوسيلة"- يتقزّم أمام ما يجري في مصر الآن.
وهنا مكمن الخطر الحقيقي الذي يهدد المرحلة الانتقالية الثانية صوب الديمقراطية، فيما تسعى القوى الإقليمية والدولية إلى مقاربة تداعيات الانقلاب من خلال ترك الباب مفتوحا على الاحتمالات كافة، لحين تبيان الدخان الأبيض.
المصريون محشورون الآن بين خندقين، حال العالم الخارجي.
كل معسكر يواجه أزمة، ويسير فوق رمال سياسية متحركة، في غياب حد أدنى من التوافق المجتمعي حول شكل مصر الغد وهويتها، أو القدرة على السير سريعا نحو مصالحة وطنية توفّر بصيص أمل بعبور سلس صوب الديمقراطية بحلول نيسان (أبريل) المقبل، من خلال انتخابات تشريعية ورئاسية.
الغالبية تبدو محكومة بعقلية الثأر وخطاب الكراهية وإقصاء الآخر، فوق مسرح سياسي بطلاه الرئيسان المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين. وكلاهما في عين العاصفة، غير قادرين على النزول بسهولة عن الشجرة التي صعدا إليها، لكنّهما قادران على الحشد وتثوير الإعلام، واللعب على وتر مخاوف الشعب.
يفاقم الوضع تبدّل أدوارالشخوص في مسرحية الضحية والجلاد.
فمن وقف ضد تدخّل الجيش في السلطة عقب الثورة الأولى في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، يتحول اليوم إلى حليف له، كنتيجة طبيعية لفشل المرحلة الانتقالية السابقة. في تلك الحقبة، سعت جماعة الإخوان المسلمين إلى استغلال وجودها على رأس الهرم حتى النهاية، من أجل السيطرة على مفاصل الدولة بمؤسساتها وإداراتها كافة، وبسرعة خارقة دون الالتفات لرغبات النصف الآخر من المجتمع ومخاوفه. وقد يأتي يوم تتحول فيه القوى المتحالفة مع المؤسسة العسكرية ضد "الإخوان" إلى خصوم للعسكر والحكومة الجديدة، في حال تعثرت العملية الانتقالية (بنسختها الثانية)، أو تنامت حدة العنف في الشارع بين مؤيدي الرئيس المخلوع وبين الجيش والأمن.
ومن سارع منهم إلى كشف انتهاكات العسكر، والأخطاء القاتلة خلال المرحلة الانتقالية الأولى مثل -إجبار فتيات من النشطاء للخضوع لفحص العذرية، أو التعامل الفظ مع المحتجين الأقباط أمام مبنى "ماسبيرو"، أو الاعتقالات والمحاكمات العسكرية بالجملة- يوجهّ اللوم اليوم للإخوان بعد مقتل 50 من أنصارهم في مواجهة مع الشرطة والجيش.
للأسف، ثمن تلك المتغيرات سيقع على كاهل مصر وجميع المصريين، وسيؤثر على تجربة الديمقراطية الوليدة. والضحية الثانية هي منظومة حقوق الإنسان، وحرية الرأي والكلمة، وقيام دولة ديمقراطية مدنية تتسع للجميع، بينما يتعمق الصراع بين قوى خسرت نفوذها عقب الإطاحة بمبارك، وقوى تريد تعزيز نفوذها الجديد بعد أن ذاقت طعم السلطة.
فالعسكر الذين انتصروا للشعب ضد "الإخوان" بحسب قراءة البعض؛ أو الذين قادوا انقلابا غير مشروع ضد رئيس منتخب بحسب رواية الإسلاميين، قادرون (العسكر) على إعادة التجربة مستقبلا مع أي رئيس منتخب، أياً كان لونه.
وسيستمر مسلسل انقلاب السحر على الساحر.
اليوم، ينسى "الإخوان" الذين ذاقوا نشوة الانتصار بعد 80 عاما من التعبئة والحشد، كيف دخلوا في سباق مع الزمن لتطويع القضاء والإعلام والشرطة والجيش، لتنفيذ مشروعهم الإسلامي بدون تحقيق الحد الأدنى من مطالب الثوار. كما أمعنوا في شيطنة الرأي الآخر ومحاربته. في المقابل، تتغاضى القوى الليبرالية والقومية واليسارية عن انتهاكات الجيش ضد "الإخوان"، بعد أن دفعت هذه القوى الثمن غاليا خلال العامين الماضيين، نتيجة سياسات الإخوان والعسكر.
اليوم، يشتكي الإسلاميون من انتهازية هذه القوى، ومن ظلم الإعلام العام والخاص، بعد أن اشتكى الطرف الآخر خلال العام الماضي من ظلم "الإخوان" وسيطرتهم على فضاء الإعلام الرسمي، ومحاربة الإعلام الخاص. نسي "الإخوان" كيف أقالوا رؤساء تحرير 50 مؤسسة إعلامية قومية وحكومية، وتناسوا تدخلات وزير الإعلام الإخواني في مؤسسة الأهرام العريقة، وفي الإذاعة والتلفزيون. تغاضوا عن العدد الهائل من الصحفيين الذين أحالهم مرسي وأعوانه إلى المحكمة، لأنهم انتقدوا سياساته؛ ففي سنة واحدة ضاهى عددهم الكلي ذات العدد الذي أرسله مبارك للقضاء خلال سنوات حكمه.
أما مؤسسات الإعلام غير الحكومية، والإعلاميين من مشجعي الرئيس المخلوع أو من العاملين في مؤسسات القطاع الخاص -والتي تعاني أيضا من صراع أجندات عالم المال والأعمال الغامض، أو تساند أزلام "الفلول"- فلم تستفد هي الأخرى من كم الأخطاء غير المهنية التي وقعت فيها أثناء الفترة الانتقالية الأولى، وخلال حكم الإخوان، وبعد الانقلاب الأخير.
ما يزال الإعلام بشقيه جزءا من المشكلة، وعاملا من عوامل التفرقة والتوتر والقلق، حال النشطاء والساسة والشعب التائه بين "الإخوان" والعسكر. ذلك الشد والجذب لن يصنع وطنا للجميع، بغض النظر عن الدين، أو الجنس، أو اللون، أو العرق، مثلما حصل في غالبية دول التحول خلال العامين الماضيين.
وتعرضت الأصوات القليلة الليبرالية أو الإصلاحية التي حذرت من سيطرة أفكار الفاشية بعد الإنقلاب الأخير إلى حملة إسكات وتخوين من أبناء جلدتها، عندما انتقدت أجواء نشوة الانتصار عبر الشاشات وفي ميدان التحرير، بتمجيد الجيش وتشجيع اعتقال الإسلاميين.
تعبر عن هذا القلق الجديد كلمات الأكاديمية اليسارية رباب المهدي في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أخيرا: "نحن ننتقل من يمين شوفيني ملتح، إلى يمين شوفيني حليق الذقن".
الناشط السياسي المعارض لمبارك ومرسي والنائب السابق عمر الحمزاوي، كان أول من وقف ضد قرار الجيش بإغلاق فضائيات مؤيدة لجماعة الإخوان، واعتقال قادتهم، بمن فيهم الرئيس المعزول مرسي. لكن الشتائم والانتقادات انهالت على حمزاوي من رفاقه الليبراليين واليساريين، حين دان في مقال رأي "خطاب الثأر والكراهية ضد الإخوان المسلمين"، وشبّه المثقفين الذين لاذوا بالصمت في هذه الظروف بـ"خفافيش الظلام".
هذه الفزعات والنزعة الإقصائية تُسكت أصوات الحكمة، وتُنذر بانزلاق مصر إلى فسطاطين، كما تحول دون التئام الجراح.
في الأنظمة الدكتاتورية، يتواصل مسلسل القمع والاستبداد ضد قوى المجتمع الأخرى. وفي مصر، كما في سائر دول التحول الديمقراطي، ثمّة فزّاعة بأن الديمقراطية تعني الفوضى إلى أن تستقر الأوضاع، ويسمو صوت الشعب فوق المحاصصات المنفعية وتقاسم النفوذ.
rana.sabbagh@alghad.jo
(الغد)
اختلاط الحابل بالنابل، وفقدان الذاكرة الجمعية، باتا يسيطران على المشهد المصري منذ عزل الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي، قبل أسبوعين.
وغدا الفكر "المكيافيلي" مهيمنا على تصرفات النخب السياسية والإعلامية المنقسمة، حال نشطاء المجتمع المدني، ورجل الشارع المشدوه أمام التحولات المتسارعة؛ بين مؤيدي الانقلاب لتخليص مصر من "ظلم الإخوان ومؤامرتهم"، وبين أنصار "الشرعية والشريعة". بل إن مكيافيلي -صاحب نظرية "الغاية تبرر الوسيلة"- يتقزّم أمام ما يجري في مصر الآن.
وهنا مكمن الخطر الحقيقي الذي يهدد المرحلة الانتقالية الثانية صوب الديمقراطية، فيما تسعى القوى الإقليمية والدولية إلى مقاربة تداعيات الانقلاب من خلال ترك الباب مفتوحا على الاحتمالات كافة، لحين تبيان الدخان الأبيض.
المصريون محشورون الآن بين خندقين، حال العالم الخارجي.
كل معسكر يواجه أزمة، ويسير فوق رمال سياسية متحركة، في غياب حد أدنى من التوافق المجتمعي حول شكل مصر الغد وهويتها، أو القدرة على السير سريعا نحو مصالحة وطنية توفّر بصيص أمل بعبور سلس صوب الديمقراطية بحلول نيسان (أبريل) المقبل، من خلال انتخابات تشريعية ورئاسية.
الغالبية تبدو محكومة بعقلية الثأر وخطاب الكراهية وإقصاء الآخر، فوق مسرح سياسي بطلاه الرئيسان المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين. وكلاهما في عين العاصفة، غير قادرين على النزول بسهولة عن الشجرة التي صعدا إليها، لكنّهما قادران على الحشد وتثوير الإعلام، واللعب على وتر مخاوف الشعب.
يفاقم الوضع تبدّل أدوارالشخوص في مسرحية الضحية والجلاد.
فمن وقف ضد تدخّل الجيش في السلطة عقب الثورة الأولى في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، يتحول اليوم إلى حليف له، كنتيجة طبيعية لفشل المرحلة الانتقالية السابقة. في تلك الحقبة، سعت جماعة الإخوان المسلمين إلى استغلال وجودها على رأس الهرم حتى النهاية، من أجل السيطرة على مفاصل الدولة بمؤسساتها وإداراتها كافة، وبسرعة خارقة دون الالتفات لرغبات النصف الآخر من المجتمع ومخاوفه. وقد يأتي يوم تتحول فيه القوى المتحالفة مع المؤسسة العسكرية ضد "الإخوان" إلى خصوم للعسكر والحكومة الجديدة، في حال تعثرت العملية الانتقالية (بنسختها الثانية)، أو تنامت حدة العنف في الشارع بين مؤيدي الرئيس المخلوع وبين الجيش والأمن.
ومن سارع منهم إلى كشف انتهاكات العسكر، والأخطاء القاتلة خلال المرحلة الانتقالية الأولى مثل -إجبار فتيات من النشطاء للخضوع لفحص العذرية، أو التعامل الفظ مع المحتجين الأقباط أمام مبنى "ماسبيرو"، أو الاعتقالات والمحاكمات العسكرية بالجملة- يوجهّ اللوم اليوم للإخوان بعد مقتل 50 من أنصارهم في مواجهة مع الشرطة والجيش.
للأسف، ثمن تلك المتغيرات سيقع على كاهل مصر وجميع المصريين، وسيؤثر على تجربة الديمقراطية الوليدة. والضحية الثانية هي منظومة حقوق الإنسان، وحرية الرأي والكلمة، وقيام دولة ديمقراطية مدنية تتسع للجميع، بينما يتعمق الصراع بين قوى خسرت نفوذها عقب الإطاحة بمبارك، وقوى تريد تعزيز نفوذها الجديد بعد أن ذاقت طعم السلطة.
فالعسكر الذين انتصروا للشعب ضد "الإخوان" بحسب قراءة البعض؛ أو الذين قادوا انقلابا غير مشروع ضد رئيس منتخب بحسب رواية الإسلاميين، قادرون (العسكر) على إعادة التجربة مستقبلا مع أي رئيس منتخب، أياً كان لونه.
وسيستمر مسلسل انقلاب السحر على الساحر.
اليوم، ينسى "الإخوان" الذين ذاقوا نشوة الانتصار بعد 80 عاما من التعبئة والحشد، كيف دخلوا في سباق مع الزمن لتطويع القضاء والإعلام والشرطة والجيش، لتنفيذ مشروعهم الإسلامي بدون تحقيق الحد الأدنى من مطالب الثوار. كما أمعنوا في شيطنة الرأي الآخر ومحاربته. في المقابل، تتغاضى القوى الليبرالية والقومية واليسارية عن انتهاكات الجيش ضد "الإخوان"، بعد أن دفعت هذه القوى الثمن غاليا خلال العامين الماضيين، نتيجة سياسات الإخوان والعسكر.
اليوم، يشتكي الإسلاميون من انتهازية هذه القوى، ومن ظلم الإعلام العام والخاص، بعد أن اشتكى الطرف الآخر خلال العام الماضي من ظلم "الإخوان" وسيطرتهم على فضاء الإعلام الرسمي، ومحاربة الإعلام الخاص. نسي "الإخوان" كيف أقالوا رؤساء تحرير 50 مؤسسة إعلامية قومية وحكومية، وتناسوا تدخلات وزير الإعلام الإخواني في مؤسسة الأهرام العريقة، وفي الإذاعة والتلفزيون. تغاضوا عن العدد الهائل من الصحفيين الذين أحالهم مرسي وأعوانه إلى المحكمة، لأنهم انتقدوا سياساته؛ ففي سنة واحدة ضاهى عددهم الكلي ذات العدد الذي أرسله مبارك للقضاء خلال سنوات حكمه.
أما مؤسسات الإعلام غير الحكومية، والإعلاميين من مشجعي الرئيس المخلوع أو من العاملين في مؤسسات القطاع الخاص -والتي تعاني أيضا من صراع أجندات عالم المال والأعمال الغامض، أو تساند أزلام "الفلول"- فلم تستفد هي الأخرى من كم الأخطاء غير المهنية التي وقعت فيها أثناء الفترة الانتقالية الأولى، وخلال حكم الإخوان، وبعد الانقلاب الأخير.
ما يزال الإعلام بشقيه جزءا من المشكلة، وعاملا من عوامل التفرقة والتوتر والقلق، حال النشطاء والساسة والشعب التائه بين "الإخوان" والعسكر. ذلك الشد والجذب لن يصنع وطنا للجميع، بغض النظر عن الدين، أو الجنس، أو اللون، أو العرق، مثلما حصل في غالبية دول التحول خلال العامين الماضيين.
وتعرضت الأصوات القليلة الليبرالية أو الإصلاحية التي حذرت من سيطرة أفكار الفاشية بعد الإنقلاب الأخير إلى حملة إسكات وتخوين من أبناء جلدتها، عندما انتقدت أجواء نشوة الانتصار عبر الشاشات وفي ميدان التحرير، بتمجيد الجيش وتشجيع اعتقال الإسلاميين.
تعبر عن هذا القلق الجديد كلمات الأكاديمية اليسارية رباب المهدي في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أخيرا: "نحن ننتقل من يمين شوفيني ملتح، إلى يمين شوفيني حليق الذقن".
الناشط السياسي المعارض لمبارك ومرسي والنائب السابق عمر الحمزاوي، كان أول من وقف ضد قرار الجيش بإغلاق فضائيات مؤيدة لجماعة الإخوان، واعتقال قادتهم، بمن فيهم الرئيس المعزول مرسي. لكن الشتائم والانتقادات انهالت على حمزاوي من رفاقه الليبراليين واليساريين، حين دان في مقال رأي "خطاب الثأر والكراهية ضد الإخوان المسلمين"، وشبّه المثقفين الذين لاذوا بالصمت في هذه الظروف بـ"خفافيش الظلام".
هذه الفزعات والنزعة الإقصائية تُسكت أصوات الحكمة، وتُنذر بانزلاق مصر إلى فسطاطين، كما تحول دون التئام الجراح.
في الأنظمة الدكتاتورية، يتواصل مسلسل القمع والاستبداد ضد قوى المجتمع الأخرى. وفي مصر، كما في سائر دول التحول الديمقراطي، ثمّة فزّاعة بأن الديمقراطية تعني الفوضى إلى أن تستقر الأوضاع، ويسمو صوت الشعب فوق المحاصصات المنفعية وتقاسم النفوذ.
rana.sabbagh@alghad.jo
(الغد)