الأردن والسؤال عما أيقنه وصفي التل بينما غفلنا عنه في رحلة التحولات الكبرى!
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
جو 24 :
أتى الخريف مبكراً ذاك العام وعلى محياه قسمات تشبه نظرات الصحراء التي شاخت في ظلال الأسئلة الصاخبة. رقدنا باكراً تلك الليلة في أحضان السكينة، حين كانت الحياة مشاعاً حتى في النوم، نقتسم فراش الطفولة في زمن ما قبل السرير وغزوة الإستهلاك التي خرقت حمى الوعي. رن جرس الضيف الثقيل الذي دخل البيت منذ بضع أشهر، وما زال منذئذ يستعمر الروح. رد والدي على الهاتف مع وجوم الدجى والجفون تطرد فلول النعاس، ثم تمتم بعض كلمة وصرخةٍ رنت في مسمعي أنين لعنة، ودموع ما رأيتها في مقلتيه أبداً سوى في تلك اللحظة؛ إذ نعى فيها أثير الشؤم وصفي التل. كنت يانعاً يومها أرقص على أنغام الحياة مع سنابل القمح، رغم أزيز الرصاص ورحيق الدم الذي سفك في أيلول، رغم غربان السوء التي كانت تحوم في سماء العروبة منذ حزيران الذي ابتلع العزة، طيور سوداء ما فتئت تقصف الجسد الجريح وتمزق أشلاء الصفوف التي سطرت مصير هذه الأرض على مسلة ميشع وصحف كنعان.
مضى وصفي تلك الليلة إلى عرين الشهادة برفقة أوراق الشجر، ومعه ذهبت ألفة القلوب وحلت الوحشة الخرساء في ثنايا الضلوع. ومع جنازة الشهيد، شيع الحزن فيما وراء البحر بقايا الكنزية الإقتصادية التي كانت تلجم جنون رأس المال وتحمي بعض فقرٍ مسيرة عقود طوال. ورويداً انسل ميلتون فردمان من مدرسة شيكاغو وأخذ زمام الأمر، بشر بدين جديد سماه النيوليبرالية المقدسة، كأنما هو من قتل وصفي واغتال لعبتي فوق بيادر القمح. وبعد تشرين، جاء كيسنجر ليقتل أطلال الحلم، يساوم في الخيمة حيناً ويقبض في البازار حفنة من البترودولار حيناً آخر، يوزع تارة مهراً للعرائس في سوق نكاح الجهاد أو جهاد النكاح، لا فرق ولا ضير، ثم تارة يمنح الأرض سلعة ذات ثمن بخس، ثم يضع رأس القاهرة على وسادة تل أبيب، ويقبض في جيبه ثورة النفط، ويغادر راضياً مطمئناً عائداً إلى مخدع صهيون في الكابيتول هيل.
وشمت تلك الحقبة في مرتع الصبا تحولاً عالمياً هاماً في مسرح السياسة ومشهد الفكر، فأقصيت الزراعة إلى هامش الإنتاج، وبدا نجم الصناعة يخبو رويداً، بينما بدأت تشرق شمس التكنولوجيا التي غمرت المنايا بماء الثمد وأسارير الخدمة، وفجرت بركاناً من التغيير الجارف الذي اكتسح الإنسان واقتلع منطق العمران. رافق ذلك تآزر ثاتشر مع ريغان وفريدمان؛ إذ باعوا الدولة التي تحمي الإنسان في سوق الخصخصة، بينما البشر كأن على رؤوسهم الطير؛ إذ أضحوا بضاعة في سوق الإستهلاك النهم، فالصحة أضحت محض سلعة، وكذلك التعليم والولادة والموت والكرامة، والإنسان ذاته أصبح متاعاً يلتقطه بعض سيارة. تمادى الملأ في التمادي والتمادي، من بوش إلى بوش عبر كلينتون إلى أوباما، فأسقطوا لينين في برلين، وصدام في بغداد، واخترعوا إسلاماً جديداً من رحم السفاح، بعد مسرحية الكذب وغزوة الخداع في نيويورك، والقصد أن يرهبوا بلادهم بالإرهاب، أن يبرمجوا عقل الإنسان عندهم بالتكنولوجيا، ويهزموه بالدعاية والإعلان.
إن تقاطعات البنية الحكائية لقصة الفكر النيوليبرالي في فلسفة الغرب الإمبريالي تؤكد أن الإنسان أصبح عندهم أداة ذات بعدين فحسب، أن ينتج السلعة أولاً ثم يستهلكها هو ذاته ثانياً، عامل وزبون ليس إلا، وما بينهما رأس مال مستوحش يجني الربح من كافة الإتجاهات، ثم يكدس الثروة في جيوب طغمة تسعى إلى الجلوس على عرش الله. دور الدولة في منظومة الجشع تلك يصبح هامشياً لا يتعدى حماية الطغام وكبح جماح المواطن وضبطه والسيطرة عليه، السلعة والمستهلك معاً. إتسع نطاق الفكر النيوليبرالي بالطبع حتى أضحت دول العالم النامي الضعيفة عنده هي ذاتها سلعة، تتعامل معها بذات الطريقة ونفس الأدوات التي تعامل بها مواطنيها. كما أن أمريكا أصبحت قلب العالم النابض وعلته في الوقت ذاته، فقد امتلكت العلم والتكنولوجيا، وصنعت المال والسلاح والدمار، أرضها واسعة وأنهارها وافرة والطاقة فيها متنوعة وعمقها مخزن غذاء، ثم أنها سيطرت على الفضاء وهيمنت على السماء، وقبضت على البحر، سطحه وقاعه، وامسكت بالإعلام والمعلومة، واحترفت التجسس، وبذخت على البحث العلمي ورعت الجامعات، واحتضنت بيوت الخبرة، وانفقت بسخاء على كل ما يضمن هيمنتها على العالم وقيادتها له، سراً وجهراً.
السؤال الذي يأتي طوعاً إلى المشهد مستفسراً أين نحن العرب من كل ذلك، فيتلقى الجواب أن لا مكان يستحق الذكر على خارطة الفكر سوى ثلاثة أسباب، تحددها المصلحة لا المكانة والجدارة. أولها إسرائيل التي ترعاها طغمة أمريكا الخفية، وجلها من اليهود الذين يعطفون عليها ويستثمرون بها وفيها، وثانيهما النفط، وثالثهما الموقع الوسيط على دروب التجارة ومنافذ البحار وأجواء السماء. العرب في فكر أمريكا، وبعيداً عن تضخم الأنا وغرور الذات، لا يمثلوا سوى سوق رائج وحقل تجارب، بينما الأسلام محض وسيلة وأداة.
أما السؤال الذي يليه فما للأردن ما يعنيه، وهنا نعود إلى وصفي التل، إبن عرار الذي عاقر الشعر وعشق بساطة الحياة في عيون الغجر، فأصبح أشهر متمرد ناكف الملك عبدالله الأول حتى نفاه، ثم عفا عنه كأنهما في مبارزة شعرية. كما أن وصفي تخرج في الجامعة الأمريكية في بيروت والتحق بالجيش البريطاني وانضم إلى جيش الإنقاذ الذي قاتل في فلسطين عام 1948، وكان تأثر بأفكار حركة القوميين العرب. وواضح أن خلفية وصفي التل جعلته يدرك أكثر من غيره أن النظام الملكي الهاشمي يبني فلسفته في الحكم على عامودين أساسيين، أولهما شرعيته الدينية والتاريخية التي يستمدها من نسبه للرسول الأعظم، ثم شرعيته السياسية التي يستند إليها في ثورته الكبرى على الدولة العثمانية، وثانيهما تحالفه الأصيل مع بريطانيا التي ساهمت في إنشاء الإمارة ودعمتها مالياً ولوجستياً وزودتها بالخبرات العسكرية التي رسخت حكم الهاشميين وبنت الدولة وقامت على يديها دعائم الأمن والبيرقراطية التي تحمل النظام وتحميه. كان وصفي التل يعلم أن هاتين الدعامتين يناقضان بعضهما في كافة المسائل الإستراتيجية، سياسية وعقائدية، خصوصاً عند المنعطفات التاريخية التي عادة ما كانت تعصف بالمنطقة في ظل زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية. مسيرة الدولة وديمومتها عندئذ كانت تبدو مستحيلة، سوى في نظر وصفي التل الذي تصالح مع ذاته وتوافق مع النظام وآمن في أعماقه أن الدولة ستُعَمرُ وتُعمِرُ. ولذلك أعتبر نفسه سنداً للمُلك وشريكاً في الحُكم، راسماً للسياسة التي تستند للفكر، وصانعاً للقرار لا منفذاً له فحسب. وكان منبع قوته في كل ذلك منبته الأصيل وفكره القومي وتحصيله العلمي وخلفيته العسكرية ونزعته الثورية التي ندر ما اجتمعت في رجل واحد في ذاك الزمان. لذلك لم يتفق وصفي التل مع المثقف االثوري الذي أعتبر المملكة جنين سفاح للإمبريالية؛ إذ سلخها عن الوطن الأم بعد أن مزق جسده أشلاءً، فقضى جل وقته يتغنى بموسكو أو بعض عواصم، بل أعتبر وصفي التل الأردن أرض نضال وتحرير، بتخطيط وتدبير بعيداً عن مراهقة السياسة التي حطمت نظاماً تلو نظام عبر السنين. كان وصفي التل يرى أن للأردن حق العيش والبقاء تماماً مثل لوكسمبورج وليختينشتاين وأندورا وسنغافورة، وأفضل من أن تلتهمها إسرائيل حسب بلفور.
لذلك آمن وصفي التل بالأرض حيث نبت في أديم حوران واشتنشق رائحة القمح، عشق سلالم السلط حيث تلقى العلم، والتقى قلبه في القدس فتعلقت بصيرته فيها، فساهم في تأسيس الجامعة الأردنية ومستشفاها، وتطوير مستشفى البشير، وإنشاء شركتي الفوسفات والبوتاس، وجريدة الرأي والتلفزيون الأردني ومحطة الأقمار الصناعية، والخط الصحراوي وتوسيع الساحل على خليج العقبة، وسد الملك طلال وقناة الغور الشرقية ومحطة زي للمياه ومشروع أريحا الزراعي، واستصلاح الأراضي في الأغوار والصحراء، وأقامة حزب الاتحاد الوطني، وألغاء القيود الأمنية لرجال الأحزاب والسياسة والسماح بعودتهم من المنفى. لقد آمن وصفي التل بالدولة الرعوية لا الريعية فكان كنزياً بالفطرة، كما اعتبر المواطن إنساناً منتجاً لا بضاعة مستهلكة، وأحس بالأرض مصدراً للحياة لا سلعة للتجارة، فكان قائدأ ورجل دولة وسياسياً بإمتياز.
إن أهم المسائل التي تواجه المملكة هي إعادة إنتاج النخب الفكرية ذات البعد الفلسفي والعمق الوطني الذي آمن به وعمل عليه وصفي التل، فتلك النخب لا يمكن استيرادها من هارفرد وأوكسفورد، كما لا يمكن أن تأتي من رحم الجامعات الأردنية التي تنقل المعرفة ولا تنتجها حالياً، بعد أن استنسخت بيروقراطية الدولة في عملها واستسلمت لرجل الأمن في رأيها منذ أحداث اليرموك، وبالتالي فهي تعجز عن ولادة نخب جديدة ترتقي إلى مستوى التحدي في ظل عقيدة الخوف والنمطية التي تجثم على عقلها المستقيل. إن الأمم والشعوب تصنع ذاتها في عقول أبناءها، وتبني مستقبلها في أرواحهم، في قاعة الصف والمختبر، في المدرج والحوار، وكما قال نيلسون مانديلا: "التعليم أعظم سلاح للتغيير”، لكن ما نحتاجه الآن هو التغيير في التعليم، في روحه وعقله، في نمطه وبنيانه، في شخوصه ورجاله. نحتاج اليوم رجالاً ونساءً مثل وصفي، تقود بالفكر والروح، بضاعتها الأمل وسبيلها الرؤيا، تأخذ نصيبها من اللوم وقليل من الفضل.
إن تراجع هيبة الدولة الأردنية في السنوات الأخيرة وتفشي الفساد والبطالة وارتفاع المديونية والأسعار وتأزم الاقتصاد واضمحلال الطبقة الوسطى وتوسع الفقيرة، وغيرها الكثير، ما هي إلى نتاج سيطرة النيوليبرالية على مقاليد الأمور في البلاد، وتحالفها الطبيعي مع الصهيونية العالمية، فهي أمها الروؤم. كما أن الموجة الحضارية الثالثة التي بشر بها آلفين توفلر ستأتي بسلسلة متلاطمة من التحولات التي تدفع بها الثورة الصناعية الرابعة، ما يجعل المملكة مرة أخرى في عين العاصفة ومكب الريح.
أثبتت جائحة كورونا أن الأردن قادر على الصمود بثبات وإمتياز، وأن قيادته حكيمة ذات رؤيا، وأن البلاد حبلى تنجب القادة والفرسان. ومن أجل الصمود في وجه الغد، علينا أن نتنبه للجامعات، ففي رحابها يصنع المستقبل وترتفع راية الشعوب، بالفكر والفلسفة لا بالنص والتلقين، وفي ساحتها يثمر الحوار وتزهو السياسية، وفي قاعاتها يسيل العلم أنهراً، وربما في مختبراتها نكتشف الدواء واللقاح، ولنا في الكيان مثال، فهو الآن قوة تكنولوجية هائلة ستمكنها من الهيمنة على المنطقة عاجلاً أم آجلاً.
اليوم أعود من أحضان الربيع في ظل كورونا والحظر إلى تلك الليلة في ذاك الخريف، إلى دفء الطفولة ونشيج والدي إذ ينعي ألفة قلوب حين رحلت مع جنازة الشهيد وأوراق الشجر، أطل على نافذة الأمس والعمر يجري، وأتمنى أن يعود وصفي مع تلك الألفة ثانية ليسرد لنا حكايته مع الوطن، وهل من أمل!