صمت الأساتذة حين خذلوا غزة
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
جو 24 :
لطالما طاردته الهواجس وأرهقه طنينها في الأعماق، وحيرة تطاول الشك في درب السكون، أن أحسن الظن بأخيك فسوء الظن إثم وعدوان، وحسنه من الإيمان ومكارم الأخلاق. ولطالما تدافعته وساوس الحكم على الآخرين، فكل إبن آدم خطاء، وأما الكمال لصاحب الكمال. غير أن أربعين أو تقرب تروي غير حكاية، مئات شخوص ورفاق في المهنة والرسالة، ووجوه تقلبت مع حوادث الأيام، أحاديث ومواقف ذهبت وذكرى طوتها صفحة العبر والعظات. وهكذا بقي السؤال يتردد دهراً، وحسن الظن يأبى أن يخضع أو يستكين خشية لله، وهكذا رقد السؤال سنينا، حبيسا في أروقة الذات.
عاد السؤال يهاجمه بعنف عند شلال الموت في غزّة، وطفولة تهدر وتشطب من سجل الحياة، وحين جلس الأستاذ في الجامعة متفرجاً، على مقاعد من وهن إذ خلع ثوب الشجاعة والإقدام، وحين سقطت من يديه حروف الحرية ورسالة ذبلت معانيها، يتكئ على شجر بلا ثمر ويهيم في أنهار من جبن لا جفت مجاريها. يتابع السؤال طنينه اليوم حيث عجباً يتسائل عن الأستاذ، عن حدود المكان من قاعة الدرس إلى فضاء الناس، أن يمارس دوره مثقفاً عضوياً في جموع الورى حاضراً، يحول المعرفة إلى قوة هادرة تلامس الحياة، تستجيب طوعاً لنداء الحمية والإباء، يشارك في صناعة اليوم وغد، يرفد الوعي ويصيغ الرأي ويصارع الواقع بأدوات النقد وفهم أعماق السياق. يحتاج استاذ الجامعة اليوم إلى شجاعة فكرية وانحيازاً للقيم الكبرى، حرية وعدالة وكرامة الإنسانية. أستاذ الجامعة قامة فكرية ليس فيها حياد أمام مصير الأمة وقضايا الوطن، هو طرف أصيل يقود الصف ويضع علمه في خدمة نهضة وتحرر وبقاء، فتغدو الندوة نضالاً والمقال جهاداً، وتصبح المشاركة في حراك كفاحاً وفي مسيرة قتالاً بل امتداداً للرسالة والقلم، وتصير الكلمة قوة أطول عمراً من السجن، ومرجعاً أخلاقياً تستنير به السلطة ويلجأ إليه المجتمع في لحظات الجد والمصير.
استاذ الجامعة مثقف جدير بالصدارة ونقيصاً لنظرية النخبة؛ إذ هو النخبة إن أجاد وأحسن، إذ ينير الطريق ويكشف مواطن الخلل، يقترح البدائل ويرسم المسار، إنشاءً وتغييراً وإصلاحاً، يعيد ربط الحاضر بجذور التاريخ، ويقرأ تحولات العالم بعيون نقدية، يترجم الرؤى إلى استراتيجيات عمل وتنفيذ، فيستحيل همزة وصل بين المعرفة والعامة، يقاوم العزلة ويبقى حاضراً حيث يحتاجه الناس، ليس للشهادة فحسب إنما في فضاء الفكر والأمة، ويجيب عن ذاك السؤال منذ البداية، وعن شلال الموت ذاك في غزة.








