تآزر الباوقراطية والإقطاع التكنولوجي في وأد الرأسمالية وتناقضات عالم ما بعد الإنسان وعبره
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
جو 24 :
الباوقراطية مصطلح جديد نادر الاستخدام اطلقته الكاتبة الروسية إلينا لارينا في كتابها الصادر باللغة الروسية عام 2015 تحت عنوان: "كيف نصمد في زمن الحرب بين النخب"، وأصل الكلمة يأتي من اللغة اللاتينية (democratia paucorum) وتعني ديمقراطية القلة لغةً وديمقراطية النخبة اصطلاحاً. تؤكد الكاتبة أن الديمقراطية الغربية بشكلها المتمثل في حكم الشعب للشعب عبر اختيار ممثليه في الحكم والتشريع والرقابة وصناعة مستقبل الدولة يتحول تدريجياً منذ بدايات القرن الحادي والعشرين إلى نوع جديد من الديمقراطية تتجاوز فعلاً العامة وتحصر عملية انتخاب الرؤساء والحكومات والنواب في النخب الثرية والصناعية والمالية والمصرفية والتكنولوجية، بل وتتخذ القرارات الاستراتيجية بنفسها. كما أن الباوقراطية قد أزاحت الطغمة الأولغارشيا المهيمنة سابقاً على السلطة واستبدلتها بمجموعات صغيرة عابرة للقومية نشأت بينها علاقات خاصة تسمى هيتيرارخيا باللاتينية تشير إلى هياكل التسيير المتنوعة والمتزامنة والمتقاطعة الخالية من التراتبية الهرمية. وسرعان ما نشبت بين هذه النخب صراعات فكرية ونفسية وسيبرانية من أجل إعادة تشكيل فضاءات العالم السياسية والاقتصادية الشاملة والتي تخلو من أي دور للدولة القومية لصالح الشركات العابرة للدول وفوق القومية، وحيث يشكل المجمع العسكري الاستخباراتي والمالي والتكنولوجي في الولايات المتحدة القوة الضاربة للنخب العالمية المتنافسة، ولعله يتسلل إلى هياكل كافة الدول ومراكز صنع القرار فيها في جميع أنحاء العالم.
تتفاوت درجة تأثير نخبة ما على هيمنة انتاجها من مصنوعات وبضائع وسلع على مشهد الاقتصاد العالمي، فبينما سيطرت صناعة النفط والغاز والسيارات والطائرات والأسلحة في حقبة الثورة الصناعية، فإن القطاع المالي والمصرفي استحوذ على الساحة العالمية في فترة ما بعد مؤتمر بريتون وودز وعقب الحرب العالمية الثانية، وتعززت تلك السيطرة مع اتفاقية البترودولار بين الولايات المتحدة والسعودية عام 1974؛ إذ ضمنت استثمار الفائض النقدي لمبيعات النفط في سندات الخزانة الأميركية. اليوم، ومنذ بداية القرن، يستأثر قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الاقتصاد العالمي كونه منتجاً متعدد الأوجه قائم بذاته وبإعتباره مكوناً أساسياً يدخل في منتجات كل القطاعات الأخرى تقريباً. ومثلما الحقب السابقة، حيث عقدت اتفاقيات وتشكلت فيها مؤسسات تدعم وتآزر القطاع المهيمن من مثل عصبة الأمم والاتحاد الدولي للاتصالات ومؤتمر فينا في حقبة الثورة الصناعية، والأمم المتحدة، بكافة مؤسساستها، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وعدد لا حصر له من الأندية والمنتديات والمجموعات والاتفاقيات فيما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن حقبة ثورة المعلومات وعصر الذكاء الذي نعيش حالياً خلق لنفسه منتدى الاقتصاد العالمي الذي يجسد هيمنة قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الاقتصاد العالمي والسياسة الدولية. إن صعود عمالقة التكنولوجيا والمنصات الرقمية؛ التي تصل إلى الأغلبية العظمى من البشرية، يؤدي إلى تركيز السلطة بشكل يذكر بالأزمنة الإقطاعية الغابرة؛ إذ أنشأت شركات التكنولوجيا من مثل آبل وجوجل وأمازون وميتا وميكروسوفت أنظمة بيئية توقع المستهلكين والشركات الصغيرة في شرك الاعتماد الكامل عليهم، ما يخلق نوعاً جديداً من الإقطاع التكنولوجي، وهذا ما يحمله عنوان كتاب يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليونانية الأسبق: "الإقطاع التكنولوجي: ما قتل الرأسمالية"، الذي صدر عام 2023، يؤكد فيه أن الرأسمالية تقتل نفسها بيدها؛ كما تنبأ كارل ماركس، ولكن ليس بالبديل الاشتراكي ولكن بالعودة إلى النظام الإقطاعي التكنولوجي الذي يشكل نموذجاً جديداً تصبح فيه البيانات السلعة الأكثر قيمة، ويتمتع أولئك الذين يتحكمون في تدفقها واستخدامها بقوة ونفوذ هائلين، إذ يعيدون تشكيل الهياكل الاقتصادية والاجتماعية. ويرى فاروفاكيس أن تركيز السلطة بيد النخبة التكنولوجية يشكل تهديداً خطيراً على الديمقراطية والليبرالية والحرية والخصوصية الفردية، لأنه يقوض مبادئ الرأسمالية التنافسية ويخلق أشكالاً جديدة من التبعية والسيطرة وتآكل المؤسسات الديمقراطية.
سبق تلك التنبؤات الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي الذي قدم في كتابه "من يحكم العالم؟" الصادر عام 2014 شرحاً وافياً وتحليلاً نقدياً لديناميكيات القوة العالمية والكيانات التي تشكل العلاقات الدولية وكذلك حال النخب في الولايات المتحدة وكيف أصبحت معزولة ولكنها حرة من قيود الديمقراطية حيث تصنع ما يحلوا لها، بينما ينجرف الشعب الأمريكي نحو حالة من اللامبالاة والتحول إلى النزعة الاستهلاكية والعدمية. كما ينقد تشومسكي تصرفات الولايات المتحدة وحلفائها، حيث يتصرفون بأنانية وذاتية مطلقة تحت ستار تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان بينما يستخدمون القوة الاقتصادية والعسكرية للحفاظ على الهيمنة، ويعرض كيفية تأثير مصالح الشركات والحكومات والمؤسسات الكبرى من مثل الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي على عدم المساواة والصراع العالمي، مثلما يفضح تواطؤ الأكاديميين والمثقفين ووسائل الإعلام في تشكيل الصور النمطية والرأي العام في إدامة الهيمنة الامبريالية، ويقدم منظوراً مثيراً للتفكير بشأن القوى التي تحكم الشؤون العالمية والحاجة إلى قدر أكبر من المساءلة والعدالة في العلاقات الدولية.
لذلك تعد مبادرة إعادة الضبط أو التشغيل الكبرى التي أطلقها المنتدى الاقتصادي العالمي في يونيو 2020 اقتراحاً مضاداً لإعادة بناء الاقتصاد العالمي وإعادة تشكيله في أعقاب جائحة كوفيد-19، عبر معالجة أوجه القصور في النظم الاقتصادية والاجتماعية القائمة التي كشفها الوباء وتفاقمت أثناءه وبعده. وتسعى المبادرة إلى تسخير إمكانات الثورة الصناعية الرابعة، واعتماد التكنولوجيات الناشئة في دفع الابتكار والإنتاجية مع ضمان تقاسم الفوائد على نطاق واسع من خلال فكرة "رأسمالية أصحاب المصلحة" وتشجيع الشركات على مراعاتها، بما في ذلك الموظفين والمجتمعات والبيئة، بدلاً من التركيز فقط على أرباح المساهمين. كما تسلط المبادرة الضوء على الحاجة إلى هياكل حوكمة أكثر مرونة وقدرة على التكيف وتحسين شبكات الأمان الاجتماعي، وتجديد التركيز على التعليم وتنمية المهارات لإعداد القوى العاملة لمواجهة تحديات المستقبل، وكذلك الدعوة إلى نهج شامل للتعافي الاقتصادي والتنموي.
تقف مبادرة إعادة الضبط الكبرى إذاً على بعد خطوات من التوافق العام مع حركة "عبر الإنسان" (Trans-humanism) التي تدعو إلى استخدام التكنولوجيا المتقدمة من مثل الهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي وانترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد وتكنولوجيا النانو والتحسينات السيبرانية لتحسين صحة الإنسان وإطالة عمره وتعزيز قدراته الجسدية والمعرفية وتجاوزها وربما تحقيق تحسينات جذرية في القدرات البشرية وتعزيز الخبرات والإمكانات وتطويرها إلى ما هو أبعد من القيود البيولوجية. ففي حين تركز فلسفة "عبر الإنسان" على تعزيز وتوسيع حياة الإنسان وقدراته عبر التكنولوجيا لخلق نوعاً جديداً من البشر المحسنين والمتفوقين، فإن حركة "ما بعد الإنسانية" (Post-humanism) تركز على قيمة البشر وتستكشف عملية تفكك الحدود بين الإنسان والآلة، والطبيعة والثقافة، وتحاول التنبؤ بمستقبل قد لا يكون فيه البشر القوة المركزية أو المهيمنة، وتبحث في احتمالية ظهور أشكال جديدة من الوجود والذكاء تتجاوز الإنسان، كما أنها تشكك في طبيعة الإنسانية وحدودها وتبحث في الآثار الأخلاقية والفلسفية والوجودية لعالم تتغير فيه التجربة الإنسانية بشكل أساسي أو حتى تجاوزها كلياً. ومن هنا يقدم المؤرخ الاسرائيلي يوفال نوح هراري، في أعماله مثل "العاقل: تاريخ موجز للبشرية"، و"الإنسان الإله: تاريخ موجز للغد"، و"21 درساً للقرن الحادي والعشرين"، رؤية استفزازية لمستقبل البشرية، حيث يمكن للتقدم التكنولوجي أن يحول الإنسان من كائن بيولوجي إلى شيء يشبه الخوارزميات، ويمكن فهمه والتلاعب به مثلما عمليات البيانات الضخمة، وعليه التنبؤ بسلوكيات وأفكار الإنسان وحتى عواطفه والتأثير عليها عبر خوارزميات معقدة، مما يقلل من إحساسه بالفردية والإرادة الحرة. لذا، يتوقع هراري عالماً يصبح فيه التمييز بين البشر والآلات غير واضح، ويصبح تدفق البيانات ومعالجتها هو المحور المركزي للقيمة والمعنى، وبالتالي يحظى أولئك الذين يتحكمون في البيانات بسلطة كبيرة قد تؤطر التجربة البشرية بشكل متزايد في إطار معالجة البيانات بدلاً من التجارب الفردية الفريدة. علاوة على ذلك، يتوقع هراري ظهور "طبقة عديمة الفائدة" من الناس وزائدة عن الحاجة اقتصادياً بسبب الأتمتة والذكاء الاصطناعي ما يؤدي إلى اضطراب اجتماعي واقتصادي واسع النطاق حيث يكافح الشباب للعثور على عمل ذي معنى أو قيمة في عالم تؤدي فيه الآلات معظم المهام بكفاءة أكبر. وفي الوقت ذاته، ستؤدي التحسينات في مجال التكنولوجيا الحيوية إلى خلق فئة جديدة من البشر الخارقين الذين يتمتعون بقدرات تتجاوز بكثير المعايير البشرية الحالية، مما يؤدي إلى تفاقم قضايا عدم المساواة، يؤدي في نهاية المطاف إلى تطور شكل جديد من أشكال الحياة، ودمج العوالم البيولوجية والرقمية بطرق تتحدى بشكل أساسي فهم لما يعنيه أن يكون الأنسان إنساناً، ما يثير أسئلة أخلاقية وفلسفية كبيرة حول مستقبل البشرية.