حاوي...الأديب الثائر...وقصته مع أوربان وخان والشمعدان
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
جو 24 :
كانت نافذة شقتي تطل على شارع برودجيت الذي يمتد على مساحة قصيرة بين مدخل الجامعة والقرية المجاورة الكئيبة. عكس اسمه، كان برودجيت ضيقاً قليلاً مثل تلك الشوارع في بلادي، لكن دون حفر أو حاويات أو شبه ارصفة تزدحم بأشجار الزيتون. كانت منازل الطلبة تتناثر في المكان، على مسافة السنين الطويلة، دون ذاكرة إذ ازدحمت بالوجوة والألسن والأنفس المكتنزة بالطموح، القادمة من زوايا الكون البعيدة عاماً تلو عام.
ذاك الصباح الحزين كنت أسير صوب الدرس في برودجيت، كانت اشعة شمس حزيران الباهتة تسطر صفحة أخرى من رواية الهوان، كانت عقارب قرن الذل تشير إلى العام 1982، ألتقيت في الشارع علياً الذي يكبرني ببضع أعوام، كان يداري دموعة ويحاصر النشجات، يطرد العار الذي يكتسح صفحة وجهه الذي احمر خجلاً وألماً. كان علي بريئاً مثلما سهول طرابلس لبنان التي تأوي ضيعته، مهذباً عفيفاً ذُو حَيَاء وحشمة، كان يجهش بالبكاء والدموع غزيرة تبتهل السماء، تود أن تستحيل مطراً يمسح عار الهزيمة ويطهر بيروت من آثار القدم الهمجية. أقامت يومها ساكب والسلط والرمثا ومدين، اخوات بيروت وعكار الصغار، بيتاً للعزاء، كان لصيقاً بقلعة نوتنجام، معقل قلب الأسد، صاحب الحملة الثالثة، جزار عكا وفلسطين وغريم صلاح الدين، مهندس اختها العاشرة وجد سايكس وروتشيلد وبلفور اللعين. ذاك يوم نقش في اعماق الذاكرة، يوم توحدت الذات بالوطن، امتزج فيه حزن النفس بجوى وأسى الأمة الطويل والمخفي، الممتد من الخرطوم إلى غصة حلب وأغادير وبابل ووصمة بيروت، في كل الأمكنة التي استوطن فيها الخزي، يوم غدت فيه خيبة الوطن إنكسار وقنوط يلازم الروح ما نبضت بالحياة.
مشهد آخر من مأساة ذاك الصيف العبوس الموحش كان أخاً آخر لعلي في لبنانيته وعروبته وانسانيته، خليل حاوي، استاذ الأدب في الجامعة الأمريكية، شاعر الفلسفة والحب ومشروع الأمة الحداثي، إذ افاق ذاك الصباح في ظلال دنيا الموات والدبابة المفترسة، رأى الطوفان العارم قادم، نفض عن ذاته غبار العقم والموت، خط قصيدته بنهر الرماد الذي حفر مجراه من المحيط إلى الخليج، أنهى حياته وغسل نفسه بالانتحار على أن يرى أقدام صهيون تدنّس تراب عشيقته، على أن يشهد بابل والفرات وصنعاء والغوطة توؤل إلى خراب، تتراقص بين التراجيديا والديكتاتورية والكوميديا، إذ إضحت جميعها سواء بسواء، منذ عزم البابا أوربان الثاني وجنكيز خان غزو ارض العروبة وهم يحملون شمعدان مينوراه إذ يغرسونه في جنبات الفؤاد.