العودة إلى زيتون غزة والبندقية
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
جو 24 :
سؤال حائر يثير المروءة ويستفزّ الشرف؛ ماذا تبقى من غزة؟ وعلى الدرب لبنان والمشرق حتى ظمأ النهرين وصميم الصحراء والنجدين، طغيان اعتدى على الأرض والسماء، وهوس دمر الحجر ومنع حتى الحزن عن الشجر، قتل العذوبة في أعين الطفولة وخنق الحياة مع الرجاء والهواء. أكابوس يفتريه إبن آدم أم جنون في قحط السنين فما الثمن؟ حلوى في أكياس أشلاء أم صرخة ثكلى تسأل عن أبناء قضوا دون عشاء، في أرض السمن والعسل وعرين الأنبياء، على بعد أذرع من صباح لا يأتي وجار يختبئ خلف خوفه وأخ يواري سوأته وراء أوسمته.
أراني الآن أحس قابيل يزور مقابر البطولة وينعي الضمير، يطوف على ما تبقى من تلك المروءة والشرف، مثلما جاءها لورنس إلى اللنبي ذات حرب كبرى بالظفر، من الصحراء شرقاً يرفع القلعة والعقبة على الرمح بزهوّ البطل، ينادي ها أنا ذا المنتصر، يدفن هابيل المسكين مرة أخرى مع القربان وهاشم الثريد والأمل. فمذ هبّت ريح الشمال الشاحب على شاطئ الشرق الذي كان ذات يوم حنونا ودافئا، ما برح زيتون غزة يذرف دماً إذ يسقي الأرض حين تحن للغيث والمطر، في موسم قطافه يعتلي المنبر ليهمس بملء غضبه تباً لكم أيها البشر.
سؤال هائم على وجه العبث؛ إلى متى الصبر ينتظر؟ فوراء الخوف حقد وخلف الموت مرارة ورصاصة، أجيال من طفولة ستنتقم، ستثأر للمشفى والمدرسة وحب الحصيد والمطر، ستحصي عدد الركعات في المسجد التي ما كانت، وتجرد عدد صلوات الفجر التي فاتت، وعلى تلك الأريكة ستقرأ رواية الملثم وهي تلوك القزنفل وتحتضن الشوك وتسخر من الموت والعدم. أجيال تولد الآن وكل اليوم، في لحظة اليأس، من عمق اللحظة ورحم العناء، من تحت الدمار ستخرج، ستصرخ بأعلى قهرها: "سحقاً لكم أيها البجم".
سل نفسك أيها الساكن وراء الشاشة عن المصير؛ أين المسير؟ انظر إلى الشمس في عين طفل في غزة مات دون عشاء. تسلى أيا رابضا فوق عجزك في ضياء القمر، حين يعانق صاروخاً اطلقته زنانة، أو قنبلة ذات أطنان ستأتيك لا محالة ذات يوم، تزج بك وبالدنيا في ساحة الفناء، قف لا تهرول أيها السائر مع القطيع، إلجم دعاء الخانعين، ابتلع الضجيج والفظ الصراخ في وجه الخنوع، غادر في الحال مهرجان المطبعين، وارسم على جدار العمر لوحة فخر للشرفاء. عد أيها القابض على جمر الخوف إلى رشدك، إرجع أيها الفاني في هذه الدنيا إذ أنك دون معين، قبل أن يأتيك اليقين، عد قبل أن يلفظك الندم ويضيق بك اللحد، عد حتى لا ترفضك الجنة و يمنعك النعيم، عد وقف مع فلسطين، مع غزة ولبنان، إقرأ شعر جويدة في أرض الأنبياء وقصيدة شهيد الشجرة وفلسطين صبراً ومعهما سورة الإسراء، ثم تذكر شطر بيت لنزار: "قصائد الشعر التي حفظنا، ليست تساوي درهماً، أمام بندقية".