عبقرية الشام ووهم القسمة على إثنين
أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
جو 24 :
غزة جرح يصرخ بلسان الشام بأعلى الفم، ملحمة نلمس فيها أنين القدس وصدى اليرموك، ومعرة النعمان يوم ذبحت من الحلقوم إلى حبل الوريد. شام كتبت صفحاتها منذ الأزل بالحبر والدم، كل غاز قد كسر الحجر واقتلع الشجر، ترك أثراً من نار ورماد، ثم رحل وبقيت الأرض رغم الركام حية، تسجد وتصلي مع الزيتون لله. الشام غيمة بيضاء سابحة بين التاريخ والسماء، كل شجرة فيها تروي حكاية نبي وشهيد، هي ناي عتيق يعزف على أنفاس الريح، ينام الياسمين في شرفاتها مثل طفل ما مارس الحزن، فيها يختلط الأذان بأجراس الكنائس، يعزفان نبضاً بقلب مرهف واحد.
بلاد الشام أرض تتكلم بكل الأصوات وتستنشق ألوان الطيف؛ الشام أرومة الروح، من دمها نبت الشعر، ومن ترابها قامت أولى المدائن، يحيطها في مغربها بحر أزرق يمتد ذراعاً لأم حنون، وعلى كتفه جبال لبنان تنتصب حارساً من أرز، وبين الجبل والجبل يمتد البقاع مثلما كتاب مفتوح نحو حلب واوغاريتا وكسب عند انطاكيا الأسيرة، تسطره سنابل القمح وكروم العنب وزيتون يضرب جذوره في الصخر رمزاً للخصب والبقاء. وصوب إيلة يسير وادي الأردن إلى الجنوب مثل برعم أو زهر لا يعرف التعب، يصب في جرح الملح ومدينة من ورد يفتح صدره أبواب حنين. أما مطلع الشمس فتنام فيه بادية من لهيب وصمت تروي عطش الفرات، تخبئ في جوفها دروب القوافل، تسجل التاريح وتحاكي صبر الإبل وأسرار الريح. وأما حوران فتلك أرض الحمم وسهل يمتد حتى أفق لا تحدّه سوى سماء تتسع لحلم الفقراء، حين أنجبت سنابل القمح وخبزاً من التنور لذيذ مثلما قصيد أبي تمام. هنا الشام، بحر وجبل، سهل وصحراء، نهر من سود الحجر، ثلج ودفء، هي جغرافيا مكتوبة بلغة الأساطير، وتاريخ يسكن القلب، موجع حين يكرر ويعاد، طعناً ونزفاً دون هواد، وندباً في وجه الزمان، أو قدراً في سجل مفتوح للأجيال.
الشام أثمرت الكون وشجرة الخلد ووضعت الأبجدية، وحين وشمت روحاً فيها سر الخلود منذ سام والطوفان، منذ انجبت المسيح وومضة البراق إلى سدرة المنتهى. الشام وعد الجنة في الأرض وفي رحيقها يختبئ ندى كل البدايات، في حضنها نبتت حضارات السبق والأصل؛ إذ على سهولها قامت أرام جذر دمشق ولسان المسيح، ونسج الحروف على شواطئها إخوة كنعان وفينيق، ركبوا البحر وروضوا الموج، وهناك بين الجبال والسهول نهضت عمون ومؤاب وأدوم، كل منها يحفر اسمه في ذاكرة الكتاب والتاريخ. وللبادية كان حظ ونصيب، فمن قلبها خطت غسان صفحات مجد، وشاد الأنباط معجزة البترا في الصخر ووحي الجبال، وكذا على صهوة الفروسية تحدّت زنوبيا جبروت روما، وماوية حين نصبت بتمردها ملكة على تنوخ.
الشام أم رؤوم احتضنت كل غريب أحبها أو إليها اعتصم والتجأ، طرق بابها طريداً أو شريداً أو منفياً، بالحنان تغمر ضيوفها ومن الصخر تفجر لهم عيون الماء واللبن. أما أن قصدها العداء، حاربها أو حاول اغتصابها أو ذبحها، كانت عليه وبالاً وسيفاً من نار ما نجى منه أحد، سل من أتى من الشرق على كف السوء من سنحاريب إلى هولاكو وتيمورلنك، وأؤلئل الذين من الغرب الأخرق قدموا، السلوقي أنطيوخس والروماني بومبي، أو من تذرع بالصليب من امثال غودفري وقلب الأسد، أو نابليون الأبيض صاحب الرسالة ومن بعده تلميذه غورو، جميعهم رحلوا واندثروا فلا يذكر التاريخ منهم أحد، بينما بقيت هي خالدة مثلما نجمة أبدية لا تنطفئ.
اليوم، الشام حزينة بعدما فرقها ثالوث الإفرنج والشر، سايكس وبيكو وبلفور، بعدما اقتسمها السوء خطوطاً على رمل ورسوماً على ورق، ووهم حدود يصفق له العُرب ويحموه. حينئذ جلب ذئاب الطغيان صهيون الخزر على اكتاف الرصاصة مخفوراً إلى نهايته، اخترعوا له شعباً هجيناً ولغة ركيكة، ثم اغتصبوا له فلسطين وسلبوا الأرض، اقتلعوا إرث الزيتون، وعلقوا نجومها في سماء بلا قمر، ثم نكبوا الإنسان والحجر وألقوا بهم في مهب الزمن مع الألم ووجع العمر والقدر. الشام اليوم حزينة، مثلما أم من نور تبكي أبنائها في المنافي أشباحاً بين الحدود، على جبينها ندوب ثالوث الشر والخزر، وشم عار يعجز الزمن، روحها مقسمة تنوح من جرح في قلبها اسمه فلسطين وآخر من جنون، نزيفه غائر في السنين. اليوم، دمشق تبكي على القدس، وتنتحب بيروت مع غزة، ويئنّ البقاع مع جنين، والكرك مع الخليل.
تبقى الشام، رغم عواصف الغزاة وظلم الأرحام وذو القربى، نبعاً للعبقرية يولد من سر عتيق يسكن ترابها، عبقرية في المكان تسهر مع الملائكة والنجوم، تتكيء على كتف القمر في ظلم الليل. عبقرية الشام مرآة تعكس قدسية الزمان وهيبة المكان، وأهلها الذين خبروا الحكمة وتسيدوا الحلم، فلم يرضوا لغير الضاد بديلاً وغير الود دليلاً. الشام أرومة التاريخ وملتقى الحضارة، هي مصب البشرية والملوك والقوافل السيارة، جذع عتيق تفرعت منه النبوة والأبجدية، من نال ودها وحاز رضاها، ملك العالم واهتدت به البشرية. عبقرية الشام تأبى القسمة كما يريدها خزر على إثنين؛ إذ هي روح لا تتجزأ وجسد واحد لا يمزق أو ينشطر، هي قلب يخفق كاملاً أو يصمت إلى الأبد. الشام نجم أزلي يضيء سماء الكون مهما حاول الغرب أو تمنى صهيون.








