2024-04-24 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

متلازمة مالتوس: ثالوث السكر والسمنة والموت البطيء

أ.د. عبدالله يوسف الزعبي
جو 24 :


يقول فيلسوف الأدب جبران خليل جبران أن أقوى النفوس تبزغ من رحم المعاناة بعد أن تحفر في وجهها الندب. ولعل ذاك الوصف يأتي من من قاع البارحة حيث الجائحة التي آوت الخوف وتركت الغد مثلما ذكرى وحلم، حين زرعت كورونا وسواس القلق والأرق في حقل العزلة، فأنبثقت منها الروح بعد جهد وصدى تعب، تتوق للفرح وتبتغي الحياة رغم تلك الندب. عام ونصف من العزلة طرزت في النفس لوحة ذات ألوان من قزح، نطقت مزيجاً من المشاعر والهواجس بين تلك المسافة الممتدة بين الفناء والرجاء، بين المعرفة والجهل، العلم والضياع، وذاك الحد الفاصل بين أهل الكهف وأصحاب الأعراف.

سؤال ما فتئ يتردد في أرجاء الفؤاد إذا ما كان العالم حقاً سقيماً ما قبل الفيروس والإنزواء، إذ تشير الإحصاءات أن العالم يعاني من متلازمة التمثيل الغذائي (الأيض)، وهو مصطلح طبي يشير إلى مزيج من الأمراض التي تأتي معاً، أهمها الكبد الدهني والسكري وارتفاع ضغط الدم والكولسترول والدهنيات الثلاثية وأمراض القلب التاجية والأوعية الدموية والسكتة الدماغية والضعف الجنسي، وربما السرطان والزهايمر والنقرس وغيرها. وتبين التقديرات أن أكثر من مليار شخص في العالم مصابون بمتلازمة التمثيل الغذائي، منهم 460 مليون مصابون بالسكري من النوع الثاني، 79٪ منهم يعيشون في بلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ونصفهم يعيشون في جنوب شرق آسيا ومنطقة غرب المحيط الهادئ، بينما أعلى معدل انتشار في أمريكا الشمالية ومنطقة البحر الكاريبي (11.5٪)، في حين تؤكد التوقعات أن العدد سيرتفع إلى 700 مليون مريض بحلول عام 2045. ولحسن الحظ، لا يزال معدل الانتشار منخفضاً نسبياً في إفريقيا، لكن التوقعات ذاتها تشير إلى أن أعلى معدلات النمو في مرض السكري في السنوات الخمس والعشرين القادمة ستكون في أفريقيا، بنسبة 141٪، والعالم العربي بنسبة 104٪. المفارقة المحزنة أن هنالك ما يقرب من مليار إنسان ما زالوا يعيشون في الجوع ويعانون نقصاً في الغذاء في الوقت ذاته؛ إذ يموت مليونا طفل كل عام بسبب سوء التغذية، ما يشطر العالم إلى نصفين، أحدهما يتضور جوعاً والآخر يشكو التخمة. وربما تكون سوء التغذية نفسها أحد العوامل الرئيسة التي تساهم في السمنة كما يحدث في جزر ساموا في جنوبي المحيط الهادئ على سبيل المثال؛ إذ يعاني 93٪ من سكانها من السمنة المفرطة والموت المبكر.

أضحى مرض السكري لذلك مصدر قلق للصحة العامة لما له من تأثير كبير على حياة الإنسان؛ إذ يؤثر على القدرات الوظيفية للأفراد ونوعية حياتهم ويؤدي إلى ارتفاع معدلات الاعتلال والوفاة المبكرة، إذ أن ثلث الوفيات المرتبطة به تحدث في الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 60 عاماً، ناهيك عن النفقات الصحية والكلفة الاقتصادية والعبيء المالي على الدولة والمواطن معاً. ومن الطريف أن الجيش الأمريكي يشكو من الاعداد المتزايدة من الشباب الذي يفشلون في الفحوصات الطبية اللازمة للانخراط في الخدمة العسكرية؛ إذ يخفق ما يزيد عن نصف المتقدمين للفحص الطبي نتيجة زيادة الوزن والسمنة.

وبعيداً عن لغة الأرقام المفزعة والواقع الأليم، فثمة فسحة أمل بدأت تضيء حياة ملايين البشر منذ عقد من الزمان حين شرع ثلة من الأطباء والعلماء بالبحث عن السبب الحقيقي للمتلازمة وحلها. وبعكس المدرسة التقليدية التي هيمنت على حقول الطب والدواء والغذاء، حيث روجت للطعام قليل الدسم والدهن، الغني بالكاربوهيدرات والنشويات والسكريات، فقد نشأت مجموعة جديدة تعزي جل تلك الأمراض للغذاء المصنع، خصوصاً الزيوت النباتية واللحوم المعالجة، وبالذات ذلك المشبع بالسكر. وتعزي المدرسة الجديدة متلازمة التمثيل الغذائي إلى اختلال في الهرمونات في جسم الإنسان بسبب زيادة استهلاك السكر تحديداً، وسكر الفاكهة على وجه الخصوص، وبالتالي زيادة افراز هرمون الانسولين الذي يعجز عن التجاوب مع كمية السكر التي يتناولها الإنسان على مدار السنين، ما يؤدي إلى امتناع الخلايا عن استقبال مزيد من السكر من الدم، أو ما يسمى مقاومة الانسولين، ما يقود إلى تراكم الدهون وزيادة الوزن ثم السمنة، وأخيراً السكري من النوع الثاني وأمراض متلازمة التمثيل الغذائي الأخرى. وبذلك أصبحت المتلازمة الخطر الصحي الرئيسي للعالم الحديث، بدأت في الغرب ثم انتشرت في جميع أنحاء المعمورة، وتحديداً مع ازدياد نسبة استهلاك الوجبات السريعة ذات السعرات الحرارية العالية والمنخفضة الألياف، إضافة إلى التوتر وقلة الحركة وانخفاض النشاط البدني والخمول والاعتماد على السيارة ووسائط النقل.

تشير دراسة نشرت في المجلة الطبية البريطانية يوم 14 آذار/مارس 2019 بأن شركات التبغ العالمية من مثل ج. رينولدز وفيليب موريس والامبريال براندز ومجموعة ألتريا، وغيرها، قد استحوذت على معظم شركات الغذاء الكبرى، من مثل نستلة وتايسون وكرافت وهاينز ومارس وكارجيل، وغيرها، حين بدأت تتعرض إلى التدقيق والتفتيش المتزايد من السلطات الصحية، وبعد أن أمست عرضة لدعاوي التعويض المالي في المحاكم الأمريكية والأوروبية بسبب الأمراض التي يصاب بها المدخنين. وبهذا اتبعت شركات الغذاء نفس اساليب شركات التبغ في تصنيع منتجاتها الغذائية وتسويقها، وتجلى ذلك في المشروبات الغازية من مثل بيبسي وكوكا كولا. واعتمدت تلك الشركات سياسات دنيئة في البحث العلمي حين اكتشفت أن السكر مادة رخيصة تسبب الادمان عند البشر بدرجة تتجاوز الكوكائين وكل أنواع المخدرات الأخرى، فاستغلت تلك الحقيقة وادرجت السكر كمادة أساسية في معظم منتجاتها. ذهبت شركات الغذاء أبعد من ذلك عندما وجدت الأطفال لقمة سائغة لسلعها الجهنمية، فأصبحت تلك الفئة البريئة هدفاً سهلاً لكل شركات الغذاء، الأمريكية منها خاصة، حتى أصبحت إصابة الأطفال بامرأض السكري والكبد الدهني حقيقة مرة، لدرجة أن امريكا تشهد صفوفاً طويلة من الأطفال والمراهقين المدرجين على قوائم زراعة الكبد، وذلك يحدث لأول مرة في تاريخ البشرية. وتزدداد الأمور غرابة حين تجد أن معظم مؤسسات المجتمع المدني، من مثل جمعية السكري الأمريكية وجمعية أمراض القلب الأمريكية وجمعية الحماية من السرطان الأمريكية، وغيرها من التي ترعى الصحة العامة، تجدها ممولة من ذات الشركات التي يفترض أن تراقبها وتفرض عليها شروطاً صحية وعلمية واخلاقية للحفاظ على صحة الانسان.

يقول الجراح الفرنسي أليكسيس كاريل، الفائز بجائزة نوبل عام 1912 لريادته في تقنيات خياطة الأوعية الدموية، أن الإنسان لا يمكنه إعادة تشكيل نفسه دون معاناة، فهو الرخام والنحات في الوقت ذاته، لكن أبقراط، قبله بألفيتين ونصف، نصح ذاك الإنسان بأن يكن طعامه دوائه ودوائه طعامه، فما من ديانة سماوية أو تعاليم دنيوية لأساتذة عظام إلا واقتفت هذا الأثر ونحت ذات الطريق؛ أذ "ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه" حسب الحديث الشريف، "وبحسب إبن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن لم يفعل فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". لذلك كان الصوم شفاءً وطهارة للجسد والروح، عند كل الأنبياء والمعلمين والعظام، فالمعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء، وكل الأشياء الزائدة تعارض الطبيعة، والإنسان ولد ليحيى لا أن يعيش نصف حياة، حسب جبران، نصف طبيعي، والآخر يصارع فيه المرض والعجز والألم، نصف حياة يتجرع فيها كأس الملل ويقارع حزناً بعد أحزان.

الصراع الدائر حالياً بين جماعة الصحة والغذاء التقليدية، الداعية للطعام قليل الدهن عالي النشويات، وتلك الجديدة التي تدعو إلى غذاء قليل السكر غني بالبروتين والدهن، خصوصاً الدهن الحيواني من مثل السمن البلدي والزبدة أو النباتي من مثل زيت الزيتون، صراع يمثل فاصلاً بين مدرستين، الأولى تمثل فكر الاستعمار الناعم والامبريالية اللينة التي تسعى إلى بسط سلطة تحالف شركات النفط والسلاح والغذاء والدواء والتبغ والإعلام والتكنولوجيا ونفوذها على شعوب العالم وأممه المستضعفة بما فيها الشعوب الغربية ذاتها، والثانية مدرسة تجاهد من أجل تحرير الإنسان من قبضة الأولى بل وإنقاذه من نفسه وضعفه عبر السير وفق نهج حياة يعتمد الصيام المتقطع والغذاء الصحي، المحلي والموسمي، والابتعاد عن كل ما هو مصنع، وتحديداً اللحوم والزيت النباتي، والتقليل من النشويات والامتناع عن السكر، خصوصاً سكر الفاكهة وجميع أنواع العصير والمشروبات الغازية، بما فيها الطبيعي، والاقلاع عن التدخين، وخفض التوتر، والنوم الباكر العميق، وممارسة المشي لمدة نصف ساعة يومياً تحت شمس الصباح المنعشة، ما أمكن. لقد مكنت تلك النصائح اعداداً كبيرة من البشر من إعادة التوازن إلى حياتهم والتخلص من معظم أمراض متلازمة التمثيل الغذائي، التي كانت الاسطورة تدعي أنه لا يمكن علاجها دونما دواء، مثلما خففت من الأعباء المالية للدواء والعلاج، ما يشكل نموذجاً اقتصادياً مثالياً للمداواة والشفاء.

ولعل الفكر الإمبريالي قد وجد، في نظرية الإنجليزي توماس روبرت مالتوس (1776-1834) حول السكان وحتمية نقص الغذاء عند زيادة اعدادهم، مخرجاً لإعادة ترتيب العالم في القرن الواحد والعشرين. فوفق مالتوس، يتبع نمو السكان متوالية هندسية أسية بعكس الإِنتاج الزراعي الذي يزيد وفق متوالية حسابية خطية عددية، ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى قحط ومخمصة ومجاعة. أما الإنسان دون انتاج أو عمل فيكون عبئاً على الدولة والمجتمع، ويصبح لقمة سائغة في وليمة الطبيعة التي تدفعه لمغادرة الحياة وترك الزمن، ما يستدعي ضرورة إعادة التوازن بين السكان والغذاء عبر عوامل تداخلية أو موانع إيجابية من مثل الحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض، حسب مالتوس. لذلك، ربما تكون متلازمة التمثيل الغذائي ذاك الوباء الذي يحقق أهداف الإمبريالية الجديدة في فتح أسواق جديدة تضخ أرباحاً هائلة تقود للثراء الفاحش والهيمنة على العالم والسيطرة على الشعوب.

لقد ازاحت جائحة كورونا النقاب عن وجه الجشع القبيح الذي يمارسه الانسان بحق أخيه الإنسان ويدفع به إلى التهلكة والزوال، فإن لم يكن الفيروس مصنعاً في المختبرات، فمن المؤكد أن معظم أمراض العصر تأتي من مصانع الغذاء ومنتجات شركات العار تلك، بما فيها التي تنتج الدواء، ثم تضع اللوم على ضعف إرادة الإنسان ونفسه اللوامة التي تترنح في فراغ اللامبالاة وتغالب الشهوة والحسرة. كشفت الجائحة كذلك عن حجم الإصرار عند ثلة تبغي تطهير النفس من أدران الجشع وتنقية الجسد من أوصار الشراهة، فاحتمت بالكتاب ولجأت للكلمة تحت ظلال إقرأ، ثم سلكت مسافة شاسعة على صراط الصوم وسارت فرسخاً ممتداً في أروقة المشائين تحت أشعة الشمس صبحاً ومساءً، فكان دوائها غذائها، وكان ديدنها إنارة دروب التائهين في غفلة الزحام والفوضى، فبزغت من رحم المعاناة صلبة ندية دونما ندوب أو جراح.

ثمة شعاع وبصيص أمل في الشفاء والتعاف، بريق في طبابة جل الأمراض وعلاج الوجع، ثمة سحاب بعد الجفاف وسقيا تعقب السنين العجاف، ثمة بارقة في الأفق تسقي أضواء الفجر وتمنح وجه الهلال تلك الاستدارة صوب الصواب؛ إذ يطفح به التاريخ والتراث والعقيدة، في الصوم والنافلة حين تضحي مغنماً وأنفالاً، حين تصبح الطيبات رزقاً مباركاً وأكلاً لا طغيان فيه، لقيمات يقمن الصلب، بدايتها تسمية ونهايتها حمداً. ثمة فسحة لترويض الأنين وبلسماً لأنان العليل، ترياقاً لأحبة تسامر السقم وتسهر الليالي مع الوصب والداء، ثمة وعد في هزيمة كبر ابليس وجشع الفاسدين، أمل في دحر الدولار وشركات العار التي ترعى العيب والشنار، ثمة رجاء في احباط متلازمة مالتوس وثلاثية السكر والسمنة والموت البطيء لملايين البشر.


 
تابعو الأردن 24 على google news