رائحة وطن للبيع بسعر السوق !!
حاتم الأزرعي
جو 24 :
في زمن العولمة، كل شيء أصبح سلعة، تباع وتشترى ،بأبخس الأسعار او اغلاها، تبعا لقانون العرض والطلب، وحتى الهواء صار يعبأ في زجاجات "تحمل رائحة الوطن" وتباع الواحدة بسعة (٥٠٠)مللتر، بمبلغ يصل إلى نحو (٣٤) دولارا، للتخفيف من حدة حنين المغتربين للوطن، وعلاجا لما يعرف (بالهوم سكنس)!!.
وهذه المعلومات حقيقية، وليست من نسج الخيال ، ونشرتها صحيفة "ديلي ميل" البريطانية وتداولتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي المحلية والعالمية ، اذ اشارت الصحيفة إلى أن شركة بريطانية استغلت القيود على السفر التي فرضها الوضع الصحي العالمي بسبب انتشار فيروس كورونا، وقامت بتجميع الهواء من دول مختلفة حول العالم وتعبئته في زجاجات وبيعه للمغتربين المقيمين في بريطانيا!!.
وتبيع الشركة حاليا زجاجات "الهواء الأصلي" من إنجلترا وأسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية، ويتم تسويق زجاجات "الهواء النقي" كهدية مثالية للبريطانيين الذين يعيشون في الخارج ويشعرون بالحنين إلى الوطن، وتطمح الشركة إلى توسيع إنتاجها ليشمل باقي دول العالم .
وحتى لا يظن احد بأن المسألة ضحك على الذقون او استخفاف بعقول الناس، واستغلال لمشاعرهم الإنسانية النبيلة ومشاعرهم الوطنية الجياشة ، فإن الفريق الذي ابتكر هذه الفكرة أكد استنادها إلى أبحاث علمية "تربط بين حاسة الشم والذكريات العاطفية".
وحين تظهر على المغترب اعراض الحنين والشوق للوطن ، فما عليه الا استنشاق جرعة من هواء بلده المعبأ في زجاجة، فتستقر حالته وتهدأ نفسيته ، ويواصل حياته بشكل طبيعي كأنه يعيش في وطنه ، وليس بعيدا عنه !!
للوهلة الأولى، أعجبتني الفكرة ، وشعرت انها تشكل حلا جذريا لمعاناة المغتربين جراء الحنين للوطن ، وانها تعتبر علاجا سحريا ناجعا لمن يعانون من مرض "الهوم سكنس" فما على المغترب الا وضع زجاجة "هواء الوطن" في جيبه ليكون بتناول اليد كلما استعرت نار الشوق والحنين، فيستنشق جرعة منه تطفئ هذه النار، وتحول جمرها رمادا!!.
ويثير الموضوع ، وهو أقرب إلى طرائف العالم وعجائبه وغرائبه ، الضحك، ويطرح جملة من الاسئلة والاستفسارات : هل تعوض زجاجة معبأة هواء عن وطن مسلوب ومنهوب ؟! كيف يضمن الشاري ان الهواء المعبأ اصليا وليس مزيفا مستقدما من وطن آخر؟! هل تستطيع الشركة المنتجة تنقية الهواء من الروائح غير المرغوبة ؟! وهل تستطيع تحديد نسب الشوائب غير المرغوبة في الهواء وفصلها وفقا لطلب الزبون ؟!. هل تتوفر زجاجات هواء من بلدان أخرى حول العالم ؟! كم يستغرق وقت إنتاج زجاجة هواء من وطن اصلي ؟! هل بالامكان استحضار رائحة وطن لم تعد تتوفر حاليا؟!.
وللحقيقة، فإن للوطن رائحة طيبة نميزها، رائحة التربة عند استقبالها حبات المطر البكر، رائحة أفران الطابون وخبزه الرضافي، رائحة خضيض الشكاء والزبدة والسمن البلدي، رائحة البيادر وغلال الحواكير ، رائحة" العجال" ، رائحة الندى على أقراص التين المشطب استواء، رائحة الجدة تفوح عطرا بعد علف الحلال وحلب الابقار وتزبيل الفرن ، ورائحة الجد الطيبة بعد حرث الأرض وحصد القمح ودرس البيدر، رائحة الطيبة تفوح في كل ركن من أركان الدار وأهل الدار.
اي هواء يعبأ اليوم في زجاجات يصلح للبيع ، بعد أن لوثه الفساد ونهب المقدرات، والعجز والبطالة والمديونية والزيف والخيانة والتضليل والغش والتدليس والنفاق السياسي، وبيع الأعضاء والاتجار باللحم البشري وتوزيع المخدرات على الطرقات وفي الازقة والحارات ، اي هواء يحمل رائحة الوطن الطيبة وقد لوثته سحب دخان المركبات والمصانع والسجائر والاراجيل التي حلت في منازلنا محل المذراة والشاعوب والمنجل والغربال والسراج واللوكس؟!. .
للوطن هواء عصي على الحبس في زجاجة، والتطويع والارتهان لتاجر ، وواهم من يعتقد انه يحمل او ينقل (بضم الياء) من مكان لآخر، إذ يكفي ان تغمض عينيك أينما كنت، داخل الوطن او خارجه ، وتأخذ نفسا حرا عميقا، لينساب الوطن في رئتيك هواء عليلا نقيا اصيلا تنتشي به الروح وتفرح، دونما حاجة لدنس تجار يبيعون الوهم !!.