jo24_banner
jo24_banner

عقوق المسنين وزهايمر المجتمع: الواقع والسياسات والطموحات

د. جمال الحمصي
جو 24 :
 
 
حسب مؤشر مراقبة الشيخوخة العالمي AgeWatch Index، سجل الأردن مرتبة متدنية ضمن هذا التصنيف الدولي (المرتبة 85 من أصل 96 دولة). وعوضاً عن التركيز بلا نهاية على "الجندر" وسياساته في المناهج والإعلام والتشريع والتمويل المصرفي والموازنة العامة، حان الوقت ودون إبطاء للتركيز على كبار السن (إناثاً وذكوراً) في مجتمعنا، ومكافحة كافة أشكال التمييز ضدهم، وتطوير نوعية حياة المسنون (من عمره 60 عاماً فأعلى)، بما في ذلك حقوقهم في الحياة والكرامة والسعادة بعد كورونا، وفي خدمات نوعية للرعاية الصحية (كورونا وأمراض الشيخوخة) والسكن الكريم والغذاء الصحي.

بعد وباء كورونا وتداعياته على وفيات كبار السن وصحتهم الهشة، وبعد الكساد الاقتصادي القاسي لكورونا على الفئات السكانية الضعيفة، وبعد تجاهل نسبي لفئة العجزة لعقود مديدة، لا يجوز لأحد الآن أن يعطي أية فئة أولوية على المسنين في الأردن، ربما باستثناء الطفولة. هذا يشمل بالطبع السياسات والتشريعات الحكومية والمساعدات الأجنبية وأولويات المانحين الدوليين.
حسب الإحصائيات المتناقضة المتوفرة، هنالك ما لا يقل عن 5% من السكان في الأردن هم من المسنين، أي ما لا يقل عن نصف مليون مسن ومسنة. وهذه النسبة والعدد هما في تصاعد مستمر. في المقابل، تتعرض الأسرة النووية والأسرة الممتدة في الأردن لتحديات متفاقمة اقتصادية ووجودية، وهنالك فقط 9 دور ايوائية للمسنين في المملكة يؤون ما لا يزيد عن 400 مسن!.
لقد أطلعت باهتمام على نظام رعاية المسنين لعام 2021 الذي صدر مؤخراً في الجريدة الرسمية وهو يشكل خطوة ايجابية في الإتجاه الصحيح نحو ماراثون اعادة الإعتبار لكبار السن في وطننا. لكن من الضروري ان يتم دعم هذا النظام بالتمويل الكافي والجهاز المؤسسي المرن والفعال.
المشكلة الرئيسية في نظام الرعاية أعلاه الذي ينشئ "حساب لرعاية المسنين" لا تنحصر في حجم التغطية والتنفيذ الكفؤ فحسب على أهميتهما، بل في ما تعانيه الموازنة العامة من وضع مالي صعب ومن أولويات غير مستجيبة للشيخوخة. المسألة هي في توفير شبكة حماية وخدمات اجتماعية عالية الجودة للمسنين، بما فيها مؤسسة الأسرة النووية والمجتمع المحلي، أكثر من مجرد لجان وخطط واحتفالات باليوم العالمي للمسنين.
إن التعامل المتكامل مع تحديات كبار السن وعجزهم وأمراضهم المزمنة لا يتم الا من خلال تنفيذ الدستور الذي ينص على حماية الشيخوخة (المادة 6)، ومن خلال إصدار قانون متكامل لحماية المسنين، ومن خلال تطوير وزارات كفؤة للصحة والتنمية الاجتماعية والتموين والنقل، وتصميم ودعم ترتيبات مؤسسية فعالة ومتعددة تشمل الأسرة النووية والممتدة، والحكومة، والقطاع التطوعي، والقطاع الخاص (مراكز كبار السن الربحية).
ولابد أيضاً من دعم كل ذلك بتشريعات فعالة، وتمويل حكومي سخي، وإعلام تنموي ومناهج تعليمية حساسة للشيخوخة، وتمويل مصرفي لا يميز بين فئات السن. فعلى سبيل المثال، من المتوجب اعداد تقرير ربعي للموازنة العامة المستجيبة للشيخوخة تظهر البرامج والمخصصات المالية في كافة الوزارات والوحدات الحكومية المستقلة المرصودة لفئة كبار السن. كما يتوجب على وزارة التخطيط ومؤسسة الضمان الاجتماعي وصندوق المعونة الوطنية وصندوق الزكاة اعداد تقارير دورية تظهر برامجها وخدماتها القائمة والجديدة لكبار السن، بما في ذلك معدلات الفقر وتغطية الضمان الاجتماعي للمسنين، والربط الكامل لرواتب المسنين بمعدل التضخم.
ومن جانبه، يؤكد علم الاقتصاد المؤسسي بأن خدمات رعاية المسنين والطفولة انما يتم توفيرها بشكل أكثر كفاءة وعدالة داخل "مؤسسة الأسرة" بالمقارنة مع المؤسسات البيروقراطية في القطاع العام والمؤسسات الربحية في القطاع الخاص.
السبب الرئيسي هو توفر عامل الثقة والمعلومات حول نوعية وجودة خدمات الأسرة، ناهيك عن عدم تأثرها بعجز الموازنة العامة وضعف الرقابة الحكومية على مراكز المسنين في القطاعين العام والخاص.
وبناء عليه، فان أية استراتيجيات لحماية الشيخوخة لابد أن تعطي أقصى أولوياتها لهدف حماية الأسرة بكافة السبل. فهل هذا يتم على أرض الواقع في البيروقراطية الحكومية وفي الجامعات ومراكز البحث اذا ما علمنا أن عدد حالات الطلاق خلال السنوات الخمسة الماضية تفوق مئة ألف (100,000) حالة؟. وأين يذهب المسنون بعد الثنائي السّام: تفكك الأسرة وعقوقها من ناحية، وتراجع دولة الرفاه في ظل محددات مالية وأيديولوجية (ليبرالية) من ناحية أخرى؟
والمطلوب -أولاً- هو توفير البيئة والتشريعات والحوافز المُمكنة لأسرة مستقرة وهانئة، تأنس بكهولها وتوقّرهم حسب منطوق الآية القرآنية (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً). هذا لا يقلل بتاتاً من مساهمة التشريع والتعليم والإعلام والمؤسسات المالية والتمويل الحكومي في رعاية المسنين، كدور تكميلي لمؤسسة الأسرة لا غنى عنه في عصر كورونا وظله الطويل.
والمطلوب -ثانياً- إقامة ودعم تأسيس جمعيات خيرية وبحثية ضمن المجتمع المدني تدعم الإنجازات في مجال الشيخوخة وتراقب التطورات وتقترح الإصلاحات على صعيد أكثر الفئات هشاشة في المجتمع.
وثالثاً، قيام فريق محلي مهني ومتعدد التخصصات بتصميم مرصد وطني لمتابعة رفاه المسنين وفقاً لخمسة مؤشرات على الأقل هي: ضمان الدخل، الوضع الصحي، الوضع الأسري، المقدرات وتحقيق الذات، والبيئة التمكينية والتفاعل الاجتماعي. وهذا يتطلب من دائرة الإحصاءات العامة بالتعاون مع مختلف الجهات المعنية بالشيخوخة في المملكة انتاج مزيد من البيانات التفصيلية والدقيقة والمحدثة حول أوضاع كبار السن، سواء على شكل احصاءات تلخيصية (كمعدلات الصحة النفسية أو الإصابة بالزهايمر) أو مسوحات أولية ميدانية (كنسبة الحصول على الخدمات الإيوائية ومصدرها).

*: مستشار وخبير اقتصادي


تابعو الأردن 24 على google news