كيف نحقق مستهدفات النمو في رؤية التحديث الاقتصادي: حالة عملية لقطاع الصناعة ووزارة الصناعة
د. جمال الحمصي
في المقال الأخير المعنون: كيف نحقق مستهدفات النمو في رؤية التحديث الاقتصادي؟ في صحيفة جو24، ركزت على ضرورة تعزيز الحوكمة الاقتصادية والمساءلة المالية، وعلى أهمية إحداث "دفعة قوية" في تنسيق وتنفيذ السياسات القطاعية والكلية، بما فيها السياسات الاستثمارية والتجارية والصناعية والمالية والضريبية والائتمانية والنقدية والقطاعية. هذه شروط نجاح حرجة لتحقيق مستهدفات النمو المستدام والتشاركي في الاقتصاد الأردني بواقع 5% على الأقل حسب رؤية التحديث، حيث فشلت برامج صندوق النقد والبنك الدوليين.
أما الأداة التنفيذية المقترحة فهي كما أشرت: نموذج الإدارة والموازنة العامة الموجّهة بالنمو. هذا النموذج يجمع بين نموذج الموازنة الموجهة بالنتائج (هامش 1) وبين نموذج الإدارة العامة الموجهة بالنتائج بغية تعزيز مساهمة الإنفاق العام والإدارة العامة في تحقيق أولوية النمو التشاركي كأولوية وطنية حرجة.
كما ان هذا النموذج الكلي يجمع بين التخطيط المالي (إدارة الموازنة العامة) وبين التخطيط الاستراتيجي القومي، حيث تتعاضد جهود وإنفاق كافة الوزارات والوحدات الحكومية المستقلة لتحقيق الازدهار الاقتصادي القابل للاستمرار، بما يخفف من تداعيات البيئة الإقليمية المضطربة.
ولكي ننزل أفكار المقال الى أرض الواقع في حالة عملية وجدت من المناسب أخذ قطاع الصناعة -ضمن تعريف محدد له- أنموذجاً هاماً للتطبيق، ولدي أسباب عديدة. اولاً: يشكل قطاع الصناعات التحويلية 20% أو خمس حجم الاقتصاد الوطني مقاساً بالناتج المحلي الإجمالي (الدخل الوطني). في المقابل، يشكل قطاع التجارة نحو 10% من الناتج. ثانياً، التطبيق الحصيف لنموذج الإدارة والموازنة العامة الموجّهة بالنمو يتطلب خبرات قطاعية وتحليلية عميقة، وقطاع الصناعة والسياسة الصناعية هو أحد أبرز مجالات خبرتي المهنية والأكاديمية. ثالثاً، ادراج القطاع وصادراته الصناعية ضمن رؤية التحديث الاقتصادي.
والهدف العام من المقال هو توضيح المنهجية التنفيذية والمهام المؤسسية وليس أساساً تقييم أداء وزارة الصناعة والتجارة.
لابد، بداية، من تحديد "نطاق المسؤولية" من منظور قطاعي بالاستعانة بالقانون القطاعي المختص (وهو في حالتنا قانون الصناعة والتجارة وتعديلاته رقم 81 لسنة 1998). فعلى عكس التعاريف الدارجة والموسعة لقطاع الصناعة لدى غرف الصناعة وغيرها، فان وزارة الصناعة والتجارة والتموين ليست مختصة أساساً بأداء الصناعات الاستخراجية (مسؤولية وزارة الطاقة والثروة المعدنية) ولا الكهرباء والمياه، بل تختص بأداء قطاع الصناعات التحويلية، بالطبع الى جانب أداء قطاعي التجارة (الجملة والتجزئة والالكترونية وغير الالكترونية والداخلية والخارجية) والتموين.
هذا ويعتمد نموذج الإدارة والموازنة العامة الموجّهة بالنمو على تطبيق عدد من مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) وهي في حالتنا مؤشري: النمو الصناعي (مقاساً بالزيادة النسبية في القيمة المضافة الصناعية والتجارية بالأسعار الثابتة) والتوظيف الصناعي (مقاساً بفرص العمل الجديدة والمستدامة للأردنيين من قبل مختلف منشآت وأنشطة الصناعات التحويلية).
وهذه المؤشرات الدورية فيما يخص أداء النمو متوفرة من قبل دائرة الاحصاءات العامة بصورة ربعية حسب القطاع وفي إطار حسابات الدخل القومي، لكن ليس دوماً على الدرجة المطلوبة من التفصيل والتجميع حسب النشاط (مثال ذلك: الصناعات الكيماوية والتجارة الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات). كما تنفذ دائرة الإحصاءات العامة مسحاً هاماً لفرص العمل المستحدثة لكنه للأسف مسحاً ليس ربعياً بل ينفذ كل نصف عام، ولكنه لحسن الحظ حسب النشاط/ القطاع الاقتصادي. أما الرقم القياسي للإنتاج الصناعي الشهري، فهو بحاجة برأيي الى مراجعة وتحديث لأهميته الدورية.
ونموذج الموازنة الموجهة بالنتائج ليس جديداً على الإدارة العامة الاردنية، بل بدأت دائرة الموازنة العامة بتطبيقه اعتباراً من عام 2009، لكن المشكلة الثنائية كانت ولا تزال هي: الاتساق في تحديد الغايات الوطنية ومؤشراتها الدقيقة، ومتابعة التقييم والتنفيذ، اذ لا تقدم دائرة الموازنة العامة توصيات ملزمة بخصوص مؤشرات الأداء الرئيسية المعتمدة لتحقيق الأولويات الوطنية المتعددة (وربما المتناقضة أحياناً)، ولا تنفذ هذه الدائرة كذلك عقوبات أو مساءلة بحق الوزارات والوحدات ذات الأداء المتدني، ولهذا، اقترح البعض ادماج الدائرة ضمن رئاسة الوزراء لتحقيق الاتساق والمساءلة معاً.
هذا وتقع وزارة الصناعة والتجارة والتموين في الفصل: 1601 ضمن قانون الموازنة العامة السنوية. وحسب قانون رقم (1) لسنة 2024 قانون الموازنة العامة للسنة المالية 2024، تتمثل رؤية الوزارة في تحقيق الريادة والتنافسية في تنمية اقتصاد وطني مستدام، في حين تتجسد رسالة الوزارة في: تطوير السياسات والبرامج الاقتصادية وتعزيز بيئة الأعمال لتكون أكثر تنافسية والمساهمة بتعزيز المخزون الاستراتيجي وتعزيز الشراكة مع كافة أصحاب المصلحة. ونلاحظ هنا ان نطاق المسؤولية القطاعية عام وغير محدد، وكأن الوزارة مسؤولة عن السياسة الاقتصادية العامة.
وبالدخول في التفاصيل، تتحدد الأولويات والنتائج المستهدفة الرئيسية الستة من الوزارة في الآتي:
(1) تعزيز الأمن الغذائي (وليس ضمان تحقيق).
(2) تنفيذ السياسة الصناعية بما فيها صندوق دعم وتطوير الصناعة (ماذا عن التصميم؟).
(3) تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتصدير.
(4) تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتجارة الالكترونية (ماذا عن نمو التجارة غير الالكترونية؟).
(5) تعزيز أداء الدور الرقابي للسيطرة على الأسعار والتصدي لسياسات التركز والاحتكار في القطاعات الاقتصادية المختلفة (أولوية هامة لضمان كفاءة وعدالة الأسواق الحرة).
(6) تسهيل بيئة الأعمال.
أما الاهداف الوطنية التي تسهم الوزارة في تحقيقها، فهي حسب وثيقة الوزارة في قانون الموازنة: (1) خلق بيئة استثمارية جاذبة قادرة على جذب رؤوس الاموال الاجنبية وتشجيع الاستثمارات المحلية (أليست هذه مسؤولية وزارة الاستثمار بالدرجة الأولى؟)، و(2) تحقيق معدلات نمو مستدام لضمان مستوى معيشة جيد لجميع المواطنين (هدف طموح لكن كيف نقيسه؟)، و(3) خفض مستويات الفقر والبطالة وبناء نظام حماية اجتماعية فعال (هدف طموح لكن ما مؤشره؟).
أما الأهداف الإستراتيجية للوزارة فتتمثل في:
1- تعزيز ودعم تنافسية القطاعات الاقتصادية
2 - تعزيز المخزون الاستراتيجي (من خلال مراكز الأعلاف ومستوعبات الحبوب).
3 - رفع كفاءة آليات الرقابة على الأسواق وحماية المستهلك
4 - رفع كفاءة الأداء المؤسسي
5 - تعزيز بيئة الأعمال
وهنا لابد من التأكيد بأنه فقط عند مستوى الهدف الاستراتيجي وبرامج الوزارة تم ادراج مؤشرات الأداء الرقمية، وليس عند الأولويات والأهداف الوطنية وليس أيضاً عند الاهداف الوطنية التي تسهم الوزارة في تحقيقها. لكن هذا يجعلنا نتساءل بفضول استراتيجي: في المحصلة، ما مساهمة كافة برامج الوزارة واستراتيجياتها في تحقيق النمو والتوظيف الصناعي كما عرّفناه سابقاً؟ هذا سؤال هام من منظور فعالية مختلف البرامج ونتائجها الملموسة إذا ما أردنا تحقيق مستهدفات رؤية التحديث الاقتصادي في النمو 5% كحد أدنى.
وللمساعدة في تحقيق هذه المستهدفات، لابد من وحدات المتابعة والتقييم والضغط ومن القطاعين العام والخاص: وأهمها: رئاسة الوزراء، ومجلس النواب ومجلس الأعيان ولجانهما المتخصصة، وديوان المحاسبة، ومنظمات القطاع الخاص والمجتمع المدني كغرف الصناعة.
ولكن كيف نتعامل مع تداخل المسؤوليات والصلاحيات بين الوزارات (مثال: تشجيع الاستثمار الصناعي). وهنا يقترح إسناد المسؤولية كاملة الى الوزارة المعنية لكي تضغط وتتدافع مع الوزارات والمؤسسات المكملة، لكيلا تتبعثر المسؤولية وتضعف. فمثلاً، على وزارة الصناعة أن تنسق وتضغط باتجاه تحقيق مؤشرات أداء الاستثمار الصناعي مع وزارة الاستثمار، عوضاً عن انتظار النتائج المستهدفة من قبل وزارة الاستثمار المسؤولة عن تشجيع الاستثمار في مختلف القطاعات.
هذا بمجمله يتطلب تطوير مؤشرات أداء داعمة واستشرافية للنمو الصناعي الحالي والمستقبلي مثل: الاستثمار الصناعي والإنتاجية الصناعية والتنافسية الصناعية حسب النشاط الصناعي وحجم المنشأة، مما يلقي مسؤولية مضاعفة على وزارة التخطيط ودائرة الإحصاءات العامة في تطوير نظام المعلومات الصناعية.
فليس من المناسب للتخطيط الصناعي ان يكون آخر رقم متاح لمؤشر "التكوين الرأسمالي الثابت الصناعي" (الاستثمار الصناعي) هو عام 2022، لسبب بسيط هو ان الاستثمار هو من أبرز محددات النمو الصناعي. وإذا تعذر ذلك لقيود مالية، لابد من وجود مؤشرات تقريبية للاستثمار والتكوين الرأسمالي الثابت، مثل: التمويل الصناعي وأعداد المنشآت ومعدلات تأسيس المنشآت الصناعية الجديدة وانسحابها من السوق مصنفة حسب النشاط وحجم المنشأة وبصورة ربعية.
هوامش:
هامش (1): يُعرّف الدليل الارشادي لتقارير المتابعة والتقييم للأداء الربعي (دائرة الموازنة العامة 2024) الموازنة الموجهة بالنتائج بأنها: المنهجية المستخدمة في إعداد قانون الموازنة العامة والتي بموجبها تقوم الفصول بتحديد رؤيتها ورسالتها وأهدافها الاستراتيجية وبرامجها ومشاريعها وأنشطتها ومؤشرات قياس الأداء على مستوى الأهداف الاستراتيجية والبرامج على ان تكون واضحة ومحددة وقابلة للقياس وواقعية ومحددة بإطار زمني (SMART) وأن تكون منسجمة مع رؤية ورسالة الفصول (الوزارات) لتحقيق الأهداف والأولويات الوطنية.