ممنوع .. مَنْع التَّجول!!
بعد حرب حزيران العام 1967، كانت سلطات الاحتلال تمنع التجوّل ليلاً في مدن فلسطين وقراها، وأذكر ذات يوم أنني سمعت أحد الجنود ينادي بالناس من مئذنة المسجد في قريتي وبلغة تشوبها الرّطانة فلا هي عبرية ولا عربية ويقول: ممنوع منع التجول، ولأن شرّ الاحتلال وليس البلية فقط ما يضحك أحياناً، ضحكت وقلت لمن معي تعالوا نتجول بكامل حريتنا بعد غروب الشمس وإذا سئلنا من جنود الاحتلال نجيبهم على الفور بأنكم طلبتم منا ذلك.
عندما قلتم لنا إن منع التجول ممنوع، لكن المحتل لا يفهم مثل هذا المنطق لأنه أساساً أطروحة مضادة للتاريخ ولكل منطق، وفيما بعد أدركت أن الجندي الملكف بإبلاغ الناس عن منع التجول وجد في تكرار كلمة المنع مرّتين ما يؤكد الهدف.
تذكرت تلك الأيام وأنا أشاهد شوارع القاهرة ليلاً تخلو من المارة والضجيج ليس لأنها محتلة، فهي في الحقيقة محررة، لكن متطلبات الأمن فرضت مثل هذا الوضع الذي قد يليق بأية عاصمة في هذا الكوكب باستثناء القاهرة..
فهي إضافة الى صفاتها العديدة والخالدة اشتهرت بين مدن العالم وعواصمه بالسهر ليلاً، حيث لا فرق بين ظهيرة نهارها وهزيع ليلها الأول أو الأخير، شوارعها وأزقتها ومقاهيها ومحلاتها مضاءة على مدار الساعة، وكان من أغرب المشاهد التي تستوقفني ليلاً وجود ماسحي أحذية بعد منتصف الليل في المقاهي والشوارع، وكانت مواعيدي مع طبيب الأسنان تبدأ الحادية عشرة ليلاً، أما وجبة العشاء فهي الفطور ذاته، عندما تزدحم مطاعم الحسين والسيدة بالزبائن في الفجر وما بعده! وهناك مدن لا يحظر فيها التجول ليلاً لكنها هي التي تمارس هذا الحظر، بحيث تفرغ شوارعها من المارة بُعّيْد الغروب، لكن القاهرة الساهرة تبدو في الليل المحظور فيه التجوال صامتة، ولصمتها صخب لا تخطئه الأذن، بحيث تبدو حتى الحجارة في واجهات العمارات ومقاعد المقاهي كما لو أنها تتلفت حولها وقد شعرت بالوحشة والحنين الى الصّخب.
خاطرة / بقية
بالطبع هذه مجرد جملة معترضة في ليل القاهرة وسرعان ما تستأنف بعدها رقصتها الليلية على ايقاع لا يشبهه أي ايقاع، فالنيل لن يطيق الصّمت على شاطئيه، وكذلك المصاطب الحجرية تحت أشجار النخيل، حيث يصغي المرء دونما عناء الى حفيف العذارى الخالدات، ولأن قاهرة المعز على موعد دائم مع قيامات متعاقبة، فإن ليلها الأكثر صخباً من ظهيرتها قادم.
ما من عاصمة مثلها تعج بكل المتناقضات وتتعايش فيها الأضداد بدءاً من الليل والنهار حتى واللهو والعبادة لهذا فهي مؤهلة بامتياز للعودة من عطلتها أكثر حياة وسهراً وعذوبة!
(الدستور)