فظائع الانقلاب وفضائله
الفظائع التي ارتكبت خلال شهر في مصر بعد “الانقلاب” اسوأ بكثير من التي ارتكبها نظام مبارك في “30” عاما، فقد سقط حتى الآن نحو “3” الاف قتيل وآلاف الجرحى، وأودع الآلاف في السجون، وماتت السياسة وكذلك السياحة وضربت بُنية المجتمع المصري اقتصاديا واجتماعيا واعيد قانون الطوارىء والاحكام العرفية.
اذا اضفت لذلك “عودة” شبح الارهاب الذي اصبح الشعار المفضل لتبرير الانقلاب وتمريره، وانقسام المجتمع المصري الى “فسطاطين”، وتبرئة مبارك ورموز النظام السابق من التهم ثم الافراج عنهم، بالتزامن مع “اختطاف” اول رئيس منتخب واحالته الى المحاكمة بتهم سياسية “مخجلة”، فستجد ان “جردة” الفظائع والفضائح التي ارتكبت “بدم بارد” اكثر من ان تحصى، وانها –بالتالي- اعادت مصر عقودا الى الوراء، لا لما قبل ثورة “يناير” فقط وانما لما قبل نظام مبارك.
لكن ما حصل بعد “الانقلاب” لا يخلو من الفضائل، وحسبي ان استأذن القارىء بالاشارة الى ست منها، اولاها فضيلة انكشاف صورة “الاعلام”، صحيح ان هذا الاعلام سواء أكان محسوبا على القطاع الخاص ام “القومي” ظل مرتبطا حتى سقوط النظام السابق بفكرة “مناهضة الثورة”، وفعل كل ما بوسعه لاجهاضها وتشويهها، لكن الصحيح –ايضا- انه حاول “التكيف” معها وركوب موجتها، لكنه اسفر عن وجهه الحقيقي بعد “الانقلاب”، ثم افرز اسوأ ما فيه بعد ان تمكن العسكر من الحكم، وباستثناء عدد محدود من الاعلاميين الذين ادانوا محاولات التحريض والتخوين والشيطنة ضد جزء من الشعب المنحاز “للشرعية”، او آثروا الانسحاب من المشهد الاعلامي بعد ان دفع بعضهم ضريبة “المصداقية”، فان اغلبية الاعلاميين تورطوا في “مستنقع” الانقلاب، وتحولوا الى ابواق لتبرير افعاله، ولعل ما جرى بعد “فض” اعتصامي النهضة ورابعة وحادثة المساجين الذين حرقوا قد كشف بوضوح “المجزرة الاعلامية” التي ارتكبت، إذْ تحول الضحايا على الشاشات وفي الصحف الى مجرمين، وتمت تبرئة القتلة وادانة القتلى، ومن المفارقات ان شعار الحرب على الارهاب ما زال يتصدر واجهات الاعلام، وكأن الذين يطالبون باعادة “الشرعية” ارهابيون يجب قتلهم والتخلص منهم.
من الفضائل ايضا ان الانقلاب اسقط القناع عن وجوه تيار عريض من الذين ركبوا موجة “الثورة” وخاصة المحسوبين على اليسار والخط القومي وبعض الحركات الشبابية التي خرجت في الميادين لاسقاط النظام السابق.
ومع انه ليس من الانصاف وضع “الجميع” في سلة واحدة، باعتبار ان بعضهم حين خرج للمطالبة برحيل مرسي لم يكن يخطر في باله انه يستحوذ العسكر على “الحكم” وان يعيدوا النظام السابق، لكنهم اصبحوا الآن مثل “بالع الموس” فلا يستطيعون مواجهة الامر الواقع ولا مداهنته ولهذا آثروا الصمت او الانسحاب اما البعض الآخر فيقف مع “الشيطان” في مواجهة “الاسلام السياسي” والاخوان تحديدا، ولهذا فان حساباته قائمة على هدف واحد وهو ازاحة “الاسلاميين” حتى وان كان البديل عودة النظام السابق، فيما يرى اخرون ان “مصالحهم” هي البوصلة التي تحدد اتجاهاتهم ولهذا انحازوا الى من يدفع “اكثر” لكن يبقى ان صورة هؤلاء بعد الانقلاب اصبحت مكشوفة تماما امام المجتمع، بعد ان تنصلوا من شعارات الديمقراطية والحرية والعدالة، وباركوا “قتل” المدنيين وشاركوا في التحريض على اخوانهم في الوطن الواحد.
الفضيلة الثالثة هي ان الانقلاب كشف “جوهر” الشعب المصري، صحيح ان “بسطوة” الاجراءات التي قام بها الانقلاب لإسكات الناس وتخويفهم كانت غير مسبوقة، لكن الصحيح ان قطاعات عريضة من الناس بقيت “صامدة” في الميادين، وواجهت القمع والقتل ببسالة، وما تزال تخرج كل يوم –رغم حضر التجول- للمطالبة بحقوقها، واعتقد ان “حالة المجتمع المصري” بعد نحو شهر على الانقلاب اصبحت اكثر وضوحا ووعيا على ما حصل، وان معادلة “فرض” الاذعان التي قام بها العسكر انقلبت عليه، فأصبح اكثر خوفا وذعرا، وهذا ما تكشفه طبيعة “الردود” الامنية والسياسية التي يتبناها في مواجهة “مدّ” الانتفاضة التي لم تهدأ حتى الآن.
بقي للانقلاب فضيلتان، احداهما تتعلق بصورة “الديني” والاخرى بصورة “الامني والعسكري” لا اتحدث هنا في العموم، لكن حالة “الفرز” التي انتجها الانقلاب سواء على صعيد موقف الازهر والكنيسة وبعض “الدعاة” او موقف القيادات الامنية والعسكرية كشفت عن “المسكوت عنه” في مرحلة الثورة، فبينما كان البعض يتصور ان بمقدور “ثورة يناير” ان تغيّر من داخل هذه المؤسسات وان تجعلها اقرب الى فهم “المجتمع” ودعم مطالبه واكثر ايمانا بضرورة حمايته وتمكينه من “التوافق” والتعايش، او –اضعف الايمان- ان لا تنحاز لطرف ضد الآخر، باعتبارها “مشتركات” وجوامع وطنية، ثبت بعد الانقلاب ان “تربة” هؤلاء لا تصلح لاستقبال التغيير، وان “تكيفهم” معه كان مجرد “انحناءة” مؤقتة، سرعان ما انتهت لمّا اسفر المشهد عن غروب “الثورة” ومعها انجازاتها، وعن عودة عقارب الساعة للوراء.
السؤال: هل بوسع هذه الفظائع والفضائل ان تفتح امام المصريين بوابة “امل” بتغيير الصورة من جديد؟ وهل في الافق جولة جديدة من “الثورة” يمكن ان تدفع عقارب ساعتها للأمام؟ اعتقد ان الذين تصوروا بانهم استطاعوا ان يسدلوا الستارة على ما انجزه المصريون في نحو عامين ونصف العام قد اخطؤوا فهم حقيقة مصر وشعبها، وانهم سيتفاجؤون “بانفضاض” المولد من حولهم وعندها سنرى وجه مصر الحقيقي، وسنسمع صوتها بوضوح.
(الدستور)