حرب النووي الأردني؟
استعدادات الأردن للاشتباك مع تداعيات هجوم أميركي مرتقب على سورية، طغت على شأن محلي يمس مستقبل البلاد والعباد، ألا وهو قرار اعتماد الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، كأحد البدائل في المملكة، منهيا بذلك سنوات من المراوحة والتشكيك.الحكومة، على ما يبدو، قرّرت عدم الإعلان عن قرارها المصيري، ربما لانشغال الأردنيين بنيران الجبهة الشمالية، بحسب مسؤولين. لكنها بذلك تعمّق فجوة الثقة المتناسلة بين الشارع والسلطة، وتضرب عرض الحائط بمعايير النزاهة والشفافية، كما تستهتر بحق الشعب -المنقسم حول جدوى الخيار النووي- في الاطلاع على تطور قد يفوق في أهميته مآلات الضربة المحتملة على سورية. وهي أضرّت أيضا بموقفها؛ لأن الطريق إلى الأمام لن تكون مفروشة بالورود.
القرار الأخير يفتح الباب أمام تشغيل مفاعلين نوويين سلميين لإنتاج الطاقة البديلة، بحلول العام 2021؛ كل منهما سينتج 1000 ميغاواط، بالاعتماد على خامات اليورانيوم المحلية كوقود نووي، وبكلفة عشرة مليارات دولار. وقد حدّدت الحكومة موقع المحطة النووية في "قصير عمرة" في البادية الشرقية.إلا أن الحكومة نسيت أن مجلس النواب السابق صوّت بالأكثرية ضد المشروع النووي، إلى حين حصوله على معلومات تتعلق بالأثر البيئي، ومخزون اليورانيوم، وكلفة المشروع ومصادر التمويل، فضلا عن توافر الكوادر المتخصصة في الأردن؛ إذ استحدث قسم للهندسة النووية في جامعة العلوم والتكنولوجيا.
وتناست الحكومة كذلك المخاوف لدى رجل الشارع من كلمة "النووي"، وتأثير ذلك على البيئة المستدامة وصحّة الإنسان منذ فاجعة فوكوشيما العام 2011، رغم إدراكه أن بلاده تعاني من أزمة طاقة فاقمها تكرار انقطاع الغاز المصري، وارتفاع الطلب المحلي على الطاقة، إلى جانب عجز مائي خطير، إذ ستؤثر مخصصات المفاعل على موارد المياه الشحيحة.وهناك "لوبي" داخلي قوي بقيادة منظمات مجتمع مدني ضد المشروع النووي، لاعتبارات آيديولوجية وبيئية ومالية وسياسية، كما يحث (اللوبي) على استخدام مصادر بديلة للطاقة؛ كالصخر الزيتي الذي يقدّر الاحتياطي المثبت منه محليا بـ70 مليار طن متري، إضافة إلى الطاقة المتجددة، بما فيها الشمسية والرياح.
وثمّة أصوات موازية تسأل عن سر هرولة الأردن صوب التكنولوجيا النووية، رغم تراجع بعض الدول الغربية، كالدنمارك وإيطاليا وألمانيا، عن هذا الخيار، بعد عقود من استخدامها الطاقة النووية، واكتساب مهارات التعامل مع مخلفات الوقود النووي، وانتهاء العمر الإفتراضي لهذه المفاعلات. فلماذا يواصل المسؤولون وأذرع الدولة تمرير القرارات المصيرية بإخراج سيئ وأداء مترهل، يقتل ما فيها من إيجابيات عند التنفيذ، مع تهميش شعب يُفترض أن يكون مصدر السلطات؟!الذاكرة الوطنية لم تنس "الطخ" على هذا المشروع الإشكالي منذ إطلاقه؛ خارجيا وداخليا.
إسرائيل، القوة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تحوز مفاعلات نووية لأغراض عسكرية، حاولت التشويش على مشروع الأردن لدى الأميركيين، لكي تضمن انفرادها وتفوقّها في مجال التكنولوجيا النووية على سائر دول المنطقة. لكنها فشلت.ثم بدأ الحراك الداخلي؛ سياسيا ومجتمعيا وبرلمانيا، في معارضة المشروع، نتيجة شكاوى من غياب المعلومات الرسمية من الحكومة، ومن هيئة الطاقة الذرية التي انشئت مطلع العام 2008، خلفا لهيئة الطاقة النووية الأردنية، بهدف نقل وتطوير وتعزيز الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.
د. خالد طوقان، رئيس "الهيئة"، والحاصل على دكتوراة في الهندسة النووية من أرقى جامعات أميركا، يقول في مقابلة مع كاتبة المقال، إنه عمل جاهدا خلال السنوات السبع الماضية لشرح الموضوع للجميع، وبطريقة "مؤسسية ودقيقة". لكن الشغب لم يتوقف؛ إن تجاهه أو تجاه مشروع متكامل لطاقة نووية مدنية، يشمل عناصر البحث والتطوير والتعدين، وإنتاج اليورانيوم المخصّب لتشغيل محطات توليد الطاقة والتخلص من مخلفات الوقود النووي. ويضيف: "كان واضحا من البداية أن هناك أجندات موجهة سياسيا، بعضها يعمل لأطراف خارجية، حاولت أن تنزلق بالحوار حول البرنامج النووي من حوار علمي متخصص إلى حرب شائعات وكلام يتطاير هنا وهناك، مبني على التهويل والتخويف.. وهذا ما رفضته وترفضه الهيئة".
ويؤكد د. طوقان أنه أجاب عن 250 سؤالا وصلته من البرلمان، ونشر الإجابات على موقع "الهيئة" الإلكتروني. لكن يجادل نواب بأن غالبية إجابات "الهيئة" غير وافية.قدّمت "الهيئة" عشرة عروض حول المشروع لمجلس الوزراء ولجانه المتخصصة منذ استلم د. عبدالله النسور موقعه، وبمعدل ساعتين في كل مرة. كما أرسلت إلى وزارة الطاقة المعالم الأساسية المرتبطة بالبرنامج الزمني لتطبيق استراتيجية استخدام الطاقة النووية.قبل ذلك، ثار لغط واسع على خلفية إنهاء الحكومة لاتفاقية التعدين مع مجوعة "أريفا" النووية الفرنسية لمسح مخزون الأردن من اليورانيوم في وسط المملكة، والتنقيب الحصري عنه، واستخراجه.
حصل ذلك بعد الانتهاء من مسح 70 % من المساحة الكلية، بكلفة 30 مليون دولار تحملتها "أريفا". وقد خرجت الشركة بخلاصة عن تواجد 28 ألف طن من احتياطات اليورانيوم قبل استكمال مسح سائر المساحة المتفق عليها، ما خلق انطباعا -غير صحيح- بأن الأرقام أقل من تلك المصرّح عنها قبل بدء المشروع، مع أن خروج "أريفا" المفاجئ جاء بفعل خسائر فادحة منيت بها نتيجة أنشطة أخرى حول العالم.وبذلك اشتدت حملة تشكيك محلية أخرى حول حقيقة احتياطات خامات اليورانيوم المشع والعالي الجودة، وسط تقديرات بوجود 80 ألف طن في أربع مناطق رئيسة صحراوية.بعدها، أثار قرار نقل موقع المحطة النووية الأولى من العقبة إلى مشارف "خربة السمراء" جدلا آخر، وأشاع انطباعا بارتجالية اتخاذ القرارات.هيئة الطاقة الذرية واصلت العمل بمفردها بعد خروج "أريفا". وأعادت مسح المنطقة بالاعتماد على كوادرها وخمسة خبراء دوليين، وباستخدام تقنيات متقدمة. وجاءت النتائج الأولية مبشرة، بحسب طوقان، وتقترب من تقديرات سلطة المصادر الطبيعية السابقة؛ بوجود حوالي 60 ألف طن متري من اليورانيوم في وسط الأردن، باستثناء المناطق الأخرى.
حتى الآن، تم مسح 17 كيلو مترا مربعا من أصل 78 كيلو مترا مربعا مسحتها "أريفا" سابقا. وتم تحديد 61 ألف طن متري من أكسيد اليورانيوم، بتركيز 165 جزءا بالمليون؛ وهو أعلى من المعيار العالمي المقبول بـ100 جزء بالمليون. ويتوقع الوصول إلى 28 ألف طن متري فقط من الطبقة السطحية وحدها؛ من صفر الى خمسة أمتار. علما أن دراسات أخرى تشير إلى وجود مثل هذه الكمية، وبذات التركيز، في الطبقة العميقة للمنطقة الممسوحة بين 10 و20 مترا، بحسب د. طوقان.
بداية، طريقة اتخاذ القرار الحكومي الأخير كانت أيضا غير موفقة.خرج وزير الطاقة السابق مالك الكباريتي من الفريق الحكومي بعد خمسة أشهر من توليه حقيبته، عقب معارضته رغبة رئيس الوزراء، د. عبدالله النسور، باتخاذ قرار بـ"الإجماع" بتبني الخيار النووي. إذ اشترط الكباريتي الحصول على المعلومات الإضافية المتعلقة بكلف المشروع وجدواه الاقتصادية وخيارات التخلص من النفايات النووية، من هيئة الطاقة الذرية.الكباريتي، المتخصص في مجال الطاقة البديلة (الرياح والشمسية) منذ منتصف الثمانينيات، يقول في مقابلة مع كاتبة المقال: إن "الهيئة" لم ترسل إليه جميع المعلومات المتعلقة بالمشروع النووي لتمكّنه من دراسة الملف، إلا متأخرا وبعد تدخل مرجعيات عليا.وهو يصر على أن معايير المهنية تفرض عليه اتخاذ قراره بناء على بيانات ضرورية، بخاصة أن "الهيئة" قد "تجاهلت" الرد على طلبه بالإجابة عن تساؤلات حول تكلفة إدارة المخلفات النووية وإعادة تأهيل موقع المحطة، وتكلفة الآثار البيئية والصحية، حتى تاريخ خروجه من الخدمة.ورغم إصراره على وجود خيارات بديلة للطاقة بعيدا عن "النووي"، يقول الكباريتي إنه ليس ضد المشروع النووي إذا نُفّذ وفقا للمواصفات العالمية، ومتطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
لكن، وبالنَفَس ذاته يقول: "في الواقع، هناك عملية استعجال وركض لتنفيذ المشروع النووي، بدون دراسة الخيارات البديلة كافة، بما فيها عرض قدمّته شركة "أكوا باور" السعودية التي تملك 51 % من شركة توليد الكهرباء الأردنية، لتزويد الأردن باحتياجاته من الطاقة من خلال استعمال البترول والصخر الزيتي والطاقة المتجددة، من شمسية ورياح". ممثلو هذه الشركة عرضوا المشروع البديل على رئيس الوزراء مرتين، بحضور أعضاء من فريقه؛ ومرة ثالثة على المجلس الاقتصادي الوزاري. وخضع للدراسة لدى الهيئات صاحبة الاختصاص، ثم أرسل لديوان التشريع لأخذ الرأي القانوني.لكن لم يتحرك ساكن على صعيد هذا الخيار. ثم جاءت الضربة الأخيرة من الحكومة التي لم تعلن عن اتخاذها.القرار الوزاري حول الخيار النووي يتضمن بندين رئيسين، بحسب المعلومات التي استقصتها كاتبة المقال.
ويجيب عن العديد من النقاط التي يثيرها معارضو المشروع، لكنه لن يوقف الجدل الدائر حوله.البند الأول:- اعتماد الطاقة النووية لتوليد الكهرباء كأحد البدائل.- تحديد سعر الكهرباء المولدة نوويا بدقة، مع الأخذ بالاعتبار كلفة إخراج المحطة من الخدمة، ومعالجة الفضلات المشعة.- المفاضلة بين العرض الروسي المقدم من شركة "روساتوم" (Rosatom) الحكومية وبين العرض الفرنسي-الياباني (ائتلاف "أريفا" و"ميتسوبيشي")، على أساس العرض المتكامل، متضمنا تزويد التكنولوجيا عبر إدخال شريك استراتيجي بنسبة 49 %.- إعطاء مجلس الوزراء الخيارات المتاحة لتمويل المحطة، بما في ذلك تنفيذ المشروع على أساس نظام "البناء والتملك والتشغيل" (BOt)، مقارنة بالخيارات الأخرى، بما فيها شراكة الحكومة مع القطاع الخاص (PPP) وبعدها نقل الملكية. وتشير المعطيات المتوفرة إلى أن الكباريتي يفضّل العرض الأول، لكي لا تتحمل خزينة الدولة أي تبعات مالية.
بينما تفضّل "الهيئة" الخيار الثاني لضمان السيادة الأردنية على المحطة، وإدارة النفايات النووية، وتدريب الكوادر البشرية.- تشكيل شركة مملوكة للحكومة لإدارة المشروع (Nuclear Utility Company) على أسس مستقلة إداريا وماليا.البند الثاني:تحديد محيط " قصير عمرة" باعتباره الموقع الأنسب لإنشاء أول محطة للطاقة النووية، وتشغيلها بحلول العام 2021 في حال توفر التمويل. وتكليف وزارة المياه والري بتحديد مصادر المياه اللازمة لتبريد مفاعلات محطة الطاقة النووية.
وتعتقد "الهيئة" أن المحطة ستحتاج 25 مليون متر مكعب سنويا من المياه العادمة المعالجة لتبريد كل مفاعل. وسيطرح عطاء دراسة الأثر البيئي للموقع المحدد الشهرالمقبل، بما في ذلك الخصائص الطبوغرافية، واتجاهات الرياح، وصلابة التربة. وتستمر هذه العملية عامين ليبدأ بعدها البناء. وقد حُدد يوم 20/9/2013 كموعد نهائي لاستلام العرض الثاني من الائتلاف الفرنسي-الياباني، بعد وصول العرض الروسي.المعلومات الرسمية المتاحة تفيد بأن هيئة الطاقة الذرية الأردنية لديها غالبية الإجابات عن الأسئلة التي تضمنها قرار مجلس الوزراء.
فهي تقدّر تكلفة إنتاج الكهرباء من المفاعل النووي بـ5 إلى 6 قروش للكيلوواط/ ساعة بالاعتماد على اليورانيوم المحلي كوقود للمحطة، وتكاليف إعادة تشغيل المحطة والتعامل مع المخلفات النووية، وذلك مقارنة بـ19 قرشا للكيلوواط/ ساعة باستخدام الوقود الثقيل والديزل، بحسبد. طوقان. لكن خبراء آخرين يشكّكون في هذه الأرقام، ويصرّون على أن التكلفة المقدرة للكيلوواط/ ساعة لا يمكن أن تتضمن نفقات إدارة المخلفات النووية وإعادة تأهيل موقع المحطة. فتكلفة رفع المخلفات النووية في منطقة أسن في ألمانيا إلى سطح الأرض بدون معالجتها، تتجاوز 5 مليارات يورو مثلا. ويرون أن أسعار "الهيئة" المعلنة تغطي فقط تكلفة التوليد، ولا تتضمن تكلفة تعزيز الشبكة الوطنية لنقل الكهرباء المولدة.
الحكومة اتخذت قرارها، ويبدو أن لا رجعة عنه؛ إلا إذا لم يتوفر التمويل.لكن إذا أرادت الحكومة تنفيذ المشروع، فإن عليها الدفاع عن خيارها -إلى جانب وزارة الطاقة وهيئة الطاقة الذرية- والتعامل بشفافية مع هذا الملف، عبر إطلاق حوار وطني لخلق توافق مجتمعي حول قرار سيحمل تبعات بيئية ومالية تدفع ثمنها الأجيال المقبلة.كما عليها أيضا تعيين لجنة استشارية دولية عليا للطاقة النووية في الأردن، بحسب اقتراح د. طوقان، بعضوية نخبة من كبار الخبراء والقانونيين العالميين، بحيث تنشر تقريرا سنويا محايدا، وتقدمه للبرلمان ومجلس الوزراء، وتطلع المجتمع عليه، لضمان تشكيل رأي عام متكامل، والتعامل مع الشكوك المشروعة التي استقبل بها الأردنيون خطط التوجه صوب الطاقة النووية السلمية
(الغد)