jo24_banner
jo24_banner

عن لهاث جامعاتنا وراء التصنيفات العالمية وعن مأساة العقل الإستشراقي الحي فينا

د. عبدالحكيم الحسبان
جو 24 :


في كتابه الذي أحدث هزة، وصدمة، في أوساط جيوش الباحثين الغربيين الذين اتخذوا من دراسة العالم العربي والشرق عموما موضوعا لدراساتهم وأبحاثهم، والمعنون ب "الإستشراق"، يرصد المفكر الكبير إدوارد سعيد العلاقة التاريخية بين الغرب والشرق وتحديدا العالم العربي من خلال رصد جانب مهم لطالما أغفله الباحثون. إذ يلحظ إدوارد سعيد أن العلاقة بين الغرب والشرق لا تتسم بالتبعية السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية فقط، ولكنها تتسم بتبعية أكثر خطورة؛ وهي التبعية المعرفية والفكرية والرمزية العميقة وحيث تمكن الغرب وعلى مدى قرون من الجهد المؤسسي الأكاديمي الذي تحالف مع المؤسسات السياسية المهيمنة من بناء جهاز معرفي مليء بالمقولات والمفاهيم والصور والرموز أنتجته مؤسسات الغرب عن الشرق وعن العالم العربي تحديدا. وأما المفارقة الكبرى فلا تكمن في استهلاك الغرب نفسه لهذه المقولات والصور التي أنتجها هو عن الشرق كي يفهم الشرق، ولكن المفارقة الكبرى هي أن الشرق نفسه بات يستعير هذه المنظومة المعرفية والرمزية التي أنتجها الغرب كي يفهم ويرى ويصنف نفسه، وكي يعرف هويته.

في علاقة الهيمنة والتبعية التي نعيشها مع الغرب، لا تتمظهر تبعيتنا للغرب في استعارة التكنولوجيا والبنى السياسية والنصوص الدستورية، وفي استعارة كثير من أنماط العيش، ولكن تبعيتنا للغرب والخارج تتجاوز هذه الجوانب إلى جوانب أكثر خطورة؛ والمقصود هنا هي الجوانب المعرفية والصورية والرمزية والتي تتعلق بتعريفنا لهويتنا وتاريخنا ودورنا ووجودنا. فما نستهلكه في حياتنا اليومية من منتجات الغرب لا يقتصر على السيارة والتلفاز وأثاث المنزل، ولكنه يتجاوز ذلك بكثير ليصل إلى استعارة الرموز، والبنى المعرفية، والصور، والصور النمطية التي ينتجها، بما فيها تلك الصور التي برع الغرب في إنتاجها عنا عبر المنظومة المؤسسية المعرفية المسماة بالاستشراق. وللإشارة إلى جانب العجز فينا، وتبعيتنا الخطيرة للغرب لم يجد إدوارد سعيد أفضل من عبارة اقتبسها عن كارل ماركس يصف فيها عجز الجماعة عن إنتاج الصور والرموز عن نفسها وحيث تقول العبارة: "لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، وكان لا بد من تمثيلهم". فحين تعجز عن إنتاج الصور عن نفسك فسيتولى الآخر القوي مهمة إنتاجها بدلا منك.

يحفل المشهد في الأردن بلهاث مستمر يبحث عن التصنيفات العالمية التي تعرف وتصنف وتقيم مؤسساتنا وتقيم دولتنا. بعض هذه التصنيفات نحتفي به، ونعتبره مدعاة للفرح، والفخر، والاعتداد بالنفس، فنهتم بنشره وتعميمه وعلى أوسع نطاق، وأما البعض الآخر من هذه التصنيفات، فنجهد في إخفاءه، ودفنه، ونود لو أن مواطنا من أهل البلاد لن يسمع به. والحال، أنه لا يكاد يمر أسبوع أو شهر حتى نرى رجال السلطة في بلادنا، وهم يظهرون(بتشديد الظاء) ويضوون على تقرير أممي يظهر تقدم البلاد على مقياس دولي هنا، أو مؤشر أممي هناك، ولكنهم يصمتون كصمت الموتى في القبور حينما يتعلق بتقارير دولية وما أكثرها، تتحدث عن تراجع ترتيب البلاد في سلم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنافسية الاقتصادية والاستثمارية.

وفي تلك اللوثة المسماة بلوثة البحث عن التصنيفات العالمية، وبلوثة شهادات الاعتماد الدولية والأمريكية تحديدا لبعض الكليات، ومطاردتها، يحتل لهاث الجامعات موقعا متقدما. فإدارات الجامعات وخصوصا بعض رؤسائها باتوا يبحثون ليل نهار عن أي تصنيف أو مؤشر دولي يقيم إيجابا جامعته. ويعم الفرح نفس الرئيس وبدنه، كما تعم الفرحة في الدائرة المحيطة بالرئيس باعتبار التصنيف الدولي الايجابي هو بمثابة شهادة لها على حسن الانجاز، وعلى عبقرية الأداء للرئيس وللفريق المحيط به. وثمة مفارقة حزينة أود أن أسجلها في هذا المقام؛ فرئيس الجامعة في بلادي والذي اعتاد غالبا، وهو في موقع الطامع في كرسي رئاسة الجامعة، أن يوجه نقدا قاسيا للحال المزري الذي وصلت إليه الجامعة، وليعدنا بأنه سيكون هو المنقذ المنتظر للجامعة من هذا الحال المزري الذي وصلت إليه، يسارع إلى الاحتفاء بأي تقرير دولي أو تصنيف دولي يشير إلى جامعته حتى وان صدر بعد أسبوع واحد على توليه رئاسة الجامعة، ليحتفي بهذا التصنيف بجامعته التي برع في انتقاد سوء الحال فيها قبل أن يصبح رئيسا.

والحال، فانه وبالرغم من تحفظي الشديد على فكرة التصنيف من حيث هي في العمق تكريس للفكر الداروني والذي يكرس فكرة التنافسية والترابية والهرمية والبقاء للأقوى، واختفاء الأضعف وحيث الحياة تصبح أقرب لمنطق الغابة والطبيعة وليس منطق المجتمع والحضارة والثقافة، فانني لا أناقش لوثة البحث عن التصنيفات وفق هذه القناعات الفلسفية، ولكني سأناقشها وفق سياقها العملي والبراغماتي.

وفي سياق النقاش البراغماتي لظاهرة اللهاث وراء تصنيفات المحافل الدولية للجامعات في الأردن، فإن كثيرا من الاستفزاز يحدث في النفس حينما نرى هاتين الظاهرتين المتوازيتين تحدثان وبصورة متزامنة. فمن جهة هناك كثير من الصخب والفرح والاحتفال بتقدم بعض الجامعات في التصنيفات العالمية، وفي المقابل فإننا نسمع الأخبار المتواترة عن قيام بعض الدول الشقيقة التي لم يكن بها جامعات حتى وقت قريب، تقوم بسحب اعترافها واعتمادها من الجامعات الأردنية الواحدة تلو الأخرى، بسبب ضعف مخرجات هذه الجامعات. فالصورة بالفعل هي سوريالية وبامتياز. وما يزيد الصورة سوريالية، هو أن بعض التصنيفات التي يروج لها بعض رؤساء الجامعات، هي تصنيفات لا تتخذ من الجامعة ككل، ولا من كامل مكوناتها وعناصرها، نقطة انطلاق للتقييم والتصنيف، بل تتخذ من مؤشر واحد، نقطة انطلاق وتقيم على أساسه. يكفي الاشارة هنا، إلى أن أحد رؤساء الجامعات ملأ الدنيا صخبا ليشير إلى تقدم جامعته في أحد المقاييس العالمية، دون أن يبلغ الناس أن هذا التصنيف يتخذ من حالة الموقع الالكتروني للجامعة وسيلة للتقييم، أي ان التقييم لم يكن للجامعة بل كان للموقع الالكتروني للجامعة مقارنة بالمواقع الالكترونية للجامعات الأخرى.

في سياق تلك اللوثة المسماة بلوثة مطاردة التصنيفات العالمية للجامعات الأردنية التي يلهث وراءها بعض رؤساء الجامعات في الأردن، هناك كثير من الملاحظات بل والمفارقات التي تثير كثيرا من الأسى والحزن في نفس المتابع كما القارئ. ولعل أول الملاحظات أو المفارقات يكمن في الحقيقة التالية؛ فالجامعات الأردنية هي أولا وأخيرا مؤسسات أردنية وتعمل داخل سياق ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي أردني، كما أن جزءا كبيرا من أهداف الجامعة يرتبط بجهات ومكونات تستفيد من الجامعة هي كلها جهات أردنية. فالجامعة في الأردن تتكون من طلبة، وعاملون أكاديميون وإداريون، ومجتمع محلي يحيط بالجامعة ويعد مكونا عضويا من مكونات الجامعة، ومجتمع كبير اسمه المجتمع الأردني له ارتباط عضوي بما تنتجه الجامعة وبما تفعله، ودولة ونظام سياسي له أهدافه وله عقله وتوجهاته. تفكيك مفهوم الجامعة في الأردن يعني هذه المكونات. وعليه، فإن ألأولى في تقييم وقياس وتحليل وتصنيف الجامعة، أن تقوم هذه المكونات بتصنيف الجامعة وتقييمها بدلا من الذهاب إلى أوكسفورد في الغرب أو شنغهاي في الشرق من أجل تقييم الجامعة الأردنية او التكنولوجيا أو الطفيلة.

والحال، أن المفارقة الكبيرة المحزنة في التصنيفات التي يفرح الكثيرون بها ويهللون لها، تكمن في أنه هذه التصنيفات هي تقييمات وتصنيفات تأتي من الخارج، ولا يجري في موازاتها أي تقييم أو قياس يأتي من الداخل. فمنظومة قيادة التعليم الجامعي الأردني لم تفكر مطلقا في بناء هياكل أو بنى مؤسسية بحثية سواء وطنية أو على مستوى كل جامعة من الجامعات الأردنية، يكون هدفها عمل الدراسة السنوية لكل جامعة من حيث تقييم وجهة نظر الطلبة ما قبل الدراسة في الجامعة وأثنائها، وبعد التخرج ولمستوى الرضى عن الجامعة، ولمستوى تصنيفهم لمنتجات الجامعة الأكاديمية والعلمية والمعرفية والقيمية والأخلاقية والمهاراتية. في تقييم جامعتنا نسمع صوت الخبير الصيني والأميركي والبريطاني، ولكن يغيب بالكامل صوت الطالب الجامعي الأردني.

وفي مقابل الاعتماد والتهليل والفرح بتصنيفات قادمة من شنغهاي أو من أوكسفورد، لا يجري أي تقييم سنوي أو كل ثلاث سنوات مثلا لمستوى التفاعل بين الجامعة والمجتمع المحلي الذي تعيش وتعمل داخله، أو لمستوى تحقيق الجامعة لأهدافها على صعيد خدمة المجتمع المحلي، فالمجتمع المحلي في إربد أو الطفيلة أو الكرك ليس له شأن في تقييم الجامعة التي تقبع على مقربة كيلومترات منه، ولا يتم سماع صوته من خلال جهد بحثي مؤسسي منظم، ولكن يتم بدلا من ذلك الذهاب إلى مبعدة آلاف الكيلومترات لاستمزاج رأي الأشقاء الصينيين أو البريطانيين أو الأميركيين في مستوى أداء جامعة الطفيلة أو اليرموك أو الأردنية. وربما ستكون الصورة أكثر مأساوية، لو أن أهلنا في الطفيلة احتفلوا بتقييم الخبراء الصينين أو البريطانيين لجامعة يفترض أنها لهم، وأنهم على تماس معها، وعلى احتكاك يومي مع مكوناتها، وبالتالي فهم الادرى بشعابها ودهاليزها، ولكنهم يغيبون تماما عن تقييم الجامعة وعن إنتاج الصور والمعرفة حولها.

وينسحب الأمر على مكونات الفضاء الجامعي الأخرى. فالعاملون في الجامعة من أكاديميين وإداريين لا صوت لهم في تقييم وتصنيف الجامعة التي يعملون بها، ولا حديث أبدا عن دراسة سنوية تستمع إلى ما يقوله، أو يعتقده، أو يتمثله هؤلاء العاملون عن المؤسسة التي يعملون بها، إذ لا صوت يعلو على صوت الخبير الأمريكي أو البريطاني أو الصيني في تصنيف الجامعة التي يعمل بها هؤلاء الناس. كما ينسحب الأمر على المجتمع الكبير من مؤسسات ومصانع ومعامل وطنية تعتمد في كثير من عملها على مخرجات هذه الجامعات. فلا جهد وطني بحثي يأخذ وجهة نظر هذه المؤسسات الوطنية في الجامعة وبما يسمح بتصنيف الجامعة وتقييم عملها.

في بلد كفرنسا، ينهمك المجتمع كثيرا في دراسة عمل كل مؤسسة، ويجري عمل مؤسسي وسنوي لدراسة أداء كل المؤسسات من مستشفيات ومؤسسات حكومية ومستشفيات ومصانع إنتاجية، ولكن الدراسة تبدأ دائما بالفرنسيين أنفسهم لتنتقل بعدها إلى مقارنة الواقع والصور التي أنتجها الفرنسيون عن مؤسساتهم مع تلك الموجودة في التصنيفات العالمية، كي يتم رؤية الصورة الأوسع.

في التصنيفات الحالية للجامعات الأردنية تجسيد للحقيقة او المفارقة التي بدأت مقالتي بها، فالترويج والاعتماد على تصنيفات مصنوعة في الخارج كي نقيم ونقيس، وكي نرى ونفرح بمؤسساتنا، في موازة إحجام كامل عن القيام بجهد محلي للدراسة والتقييم والتصنيف، يكرس تبعية قاتلة ومدمرة. فالمؤسسة التي يفترض أنها أردنية، وأنها تتكون من مكونات أردنية، وتعمل وسط مجتمع أردني وتمارس وتخدم أهداف الدولة الأردنية، أولى أن يتم تقييمها ودراستها وتصنيفها من قبل مكوناتها الأردنية، على أن يتم اللجوء لاحقا للتصنيفات الدولية، كي نرى موقع الجامعة مقارنة بالجامعات العالمية الأخرى. وأما أن يتم الاكتفاء بالتصنيفات الدولية فهو تكريس للمقولة التي تقول أننا ولأننا عاجزون أن نصنع الصورة عن أنفسنا، فإننا نستورد صورتنا عن أنفسنا من الخارج، وان ما نستهلكه من صور ورموز عن أنفسنا، لا ننتجه نحن بأنفسنا، بل نوكل مهمة انتاجه للاخر الغريب عنا والذي حتما لا يعرفنا، وفي بعض الاحيان نستوردها من الاخر الذي لا يعرفنا بل يكرهنا.


 
تابعو الأردن 24 على google news