حوار على الرصيف
حسين الرواشدة
جو 24 : قال لي: انت، ربما لم تعرف الحاجة والعوز، لم تشعر بمرارة العجز وقلة الحيلة حين يلح عليك احد اطفالك الصغار بدفع مصروفه اليومي او شراء “وجبة” طعام يحلم بها، تصور كيف تدور بك الارض آنذاك، هل تصارحه وتقول له: انا طفران يا بنيّ؟ أو تكذب عليه بوعود لا يمكن ان تتحقق.
قال لي ايضا: انت، ربما لم تعرف الفقر، لم تنم ليالٍ طويلة وبطنك خاوية من الطعام، لم يداهمك “الدائنون” في كل صباح ومساء ليطالبوك بالسداد، لم تتكدس عليك اجره البيت لشهور طويلة، لم يصفعك الخجل حين يزورك ضيف لا تستطيع ان تكرمه كما تعودت، لم تعش مذلة ان تمشي في الطريق ومحفظتك خالية من النقود، ولا تستطيع ان تعود للبيت بكيس “خضرة” او حتى “ربطة خبز”.
قال لي: كل شيء يهون الا ان ترى “دموع” زوجتك التي تحجرت في عيونها “شفقة” عليك، او ان تسمع “صراخ” ابنائك من البرد، او ان تقف في “السوق” فترى عباد الله المترفين، بسياراتهم الفارهة وبدلاتهم الانيقة، يأكلون ويشربون ويتلذذون بطعم الحياة والسهر وانت محروم من كل شيء، مجرد جائع في الشارع او على الرصيف تنتظر من يمد لك يد “العون” او من يرمقك بنظرة “رحمة” ومعها بضعة قروش.
قال لي: لا تظن انني “شحاد” او “متسول” او عاطل عن العمل، فقد امضيت خمسة عقود من عمري بالعمل، لكنه عمل “بالقطعة” ولأجل الكفاف، كنت فيما مضى اشعر “بالستر” لان ما اجنبه بعرق جبيني في اليوم يكفي، الان انهدّ جسدي، وماتت طاقتي، ومع ذلك ما زلت اخرج صباح كل يوم “للعمل” لا تسألني ماذا اعمل؟ كل شيء، اي شيء، انا اقف على باب الكريم.. لكن صدقني لم اعد استطيع ان “اجمع” ما يكفي لشراء اي شيء، الاولاد ما زالوا صغارا وطلباتهم لا تتوقف، اجرة البيت الصغير التي احرص على سدادها، مصروفات العائلة الضرورية من طعام وشراب وفواتير... آه، هذه الفواتير التي تسرق معظم دخلي البسيط.
قال لي: انتم مشغولون “بالسياسة” والاصلاح وبالتنظير والجدل، انتم تتطلعون الينا من ثقب “الصراع” على المصالح والمكاسب، انتم تتصورون ان تحسين قانون الانتخاب او الاحزاب او الحريات سيطعمنا ويفك قيود “الفقر” عن اعناقنا، انتم –صدقني- من طينة اخرى، نراها ولا نعرفها، من عالم اخر “تتاجرون” بفقرنا حتى تصلوا... ثم اذا وصلتم نسيتم الفقر واصحابه.
قال لي: حتى مولانا امام “المسجد” يحاول ان يزين “الزهد” في عيني، ويقول لي: الرزق على الله، صحيح الرزق على الله، ثم يقول لي: المؤمنون اشد “بلوى”، صحيح الدنيا امتحان المؤمن، ثم يقول لي: ولباس التقوى ذلك خير، صحيح، لكن ماذا عن اللباس في الدنيا، ثم يقول لي: لا تكفر بالنعمة فأنت افضل حالا من غيرك، صحيح، الحمد لله على العافية، لكن يا مولانا لم تقل لي ماذا افعل وتفعل انت معي، لكي نعيش في هذه الدنيا دون ان نشعر بالظلم واليأس او ان نتمنى الموت.
قال لي: انا اعتبر الدنيا قد اصبحت من وراء ظهري، وما تزال لدي طاقة من الصبر والحكمة، وربما قليل من الامل، لكن ماذا عن هؤلاء الشباب الذين “اقفلت” امامهم ابواب العمل والزواج والامل؟ هل نقول لهم: لا حظّ لكم في هذه الدنيا فودعوها؟ هل ندلهم على طريق الآخرة وانت تعرفها طبعا؟ هل نعاقبهم لأنهم انحرفوا او تورطوا في جريمة ما او “رفقة” اصدقاء السوء؟ هؤلاء الشباب هم مصدر قلقي وخوفي، تصور ان احد ابنائي قال لي يوما بصراحة: انت تريد ان تعلمنا الاخلاق والقيم، هذه التي لم تزدك الا فقرا، هل تريدنا ان نظل مثلك فقراء... ادركت وقتها –وفي داخلي غصة كبيرة- ان الجيل تغير كثيرا وان ابناءنا الذين سرقتهم “موضة” الشطارة والنهب وقعوا في “الفخ” قل لي اذن من يتحمل مسؤولية هذا العقوق الذي بدأ من بيتي... ولن يتوقف عند بيت.. اي بيت.
قال لي: قديما سأل الكفر الفقر: الا اين ستذهب فلما اخبره قال له: خذني معك.
كنت احاول في كل مرة ان ارد على الرجل، لكن ما ان توقف، التفت الى يميني، فلم اجده امامي، لقد اختفى تماما وسط الجموع التي ازدحم بها الرصيف.
(الدستور)
قال لي ايضا: انت، ربما لم تعرف الفقر، لم تنم ليالٍ طويلة وبطنك خاوية من الطعام، لم يداهمك “الدائنون” في كل صباح ومساء ليطالبوك بالسداد، لم تتكدس عليك اجره البيت لشهور طويلة، لم يصفعك الخجل حين يزورك ضيف لا تستطيع ان تكرمه كما تعودت، لم تعش مذلة ان تمشي في الطريق ومحفظتك خالية من النقود، ولا تستطيع ان تعود للبيت بكيس “خضرة” او حتى “ربطة خبز”.
قال لي: كل شيء يهون الا ان ترى “دموع” زوجتك التي تحجرت في عيونها “شفقة” عليك، او ان تسمع “صراخ” ابنائك من البرد، او ان تقف في “السوق” فترى عباد الله المترفين، بسياراتهم الفارهة وبدلاتهم الانيقة، يأكلون ويشربون ويتلذذون بطعم الحياة والسهر وانت محروم من كل شيء، مجرد جائع في الشارع او على الرصيف تنتظر من يمد لك يد “العون” او من يرمقك بنظرة “رحمة” ومعها بضعة قروش.
قال لي: لا تظن انني “شحاد” او “متسول” او عاطل عن العمل، فقد امضيت خمسة عقود من عمري بالعمل، لكنه عمل “بالقطعة” ولأجل الكفاف، كنت فيما مضى اشعر “بالستر” لان ما اجنبه بعرق جبيني في اليوم يكفي، الان انهدّ جسدي، وماتت طاقتي، ومع ذلك ما زلت اخرج صباح كل يوم “للعمل” لا تسألني ماذا اعمل؟ كل شيء، اي شيء، انا اقف على باب الكريم.. لكن صدقني لم اعد استطيع ان “اجمع” ما يكفي لشراء اي شيء، الاولاد ما زالوا صغارا وطلباتهم لا تتوقف، اجرة البيت الصغير التي احرص على سدادها، مصروفات العائلة الضرورية من طعام وشراب وفواتير... آه، هذه الفواتير التي تسرق معظم دخلي البسيط.
قال لي: انتم مشغولون “بالسياسة” والاصلاح وبالتنظير والجدل، انتم تتطلعون الينا من ثقب “الصراع” على المصالح والمكاسب، انتم تتصورون ان تحسين قانون الانتخاب او الاحزاب او الحريات سيطعمنا ويفك قيود “الفقر” عن اعناقنا، انتم –صدقني- من طينة اخرى، نراها ولا نعرفها، من عالم اخر “تتاجرون” بفقرنا حتى تصلوا... ثم اذا وصلتم نسيتم الفقر واصحابه.
قال لي: حتى مولانا امام “المسجد” يحاول ان يزين “الزهد” في عيني، ويقول لي: الرزق على الله، صحيح الرزق على الله، ثم يقول لي: المؤمنون اشد “بلوى”، صحيح الدنيا امتحان المؤمن، ثم يقول لي: ولباس التقوى ذلك خير، صحيح، لكن ماذا عن اللباس في الدنيا، ثم يقول لي: لا تكفر بالنعمة فأنت افضل حالا من غيرك، صحيح، الحمد لله على العافية، لكن يا مولانا لم تقل لي ماذا افعل وتفعل انت معي، لكي نعيش في هذه الدنيا دون ان نشعر بالظلم واليأس او ان نتمنى الموت.
قال لي: انا اعتبر الدنيا قد اصبحت من وراء ظهري، وما تزال لدي طاقة من الصبر والحكمة، وربما قليل من الامل، لكن ماذا عن هؤلاء الشباب الذين “اقفلت” امامهم ابواب العمل والزواج والامل؟ هل نقول لهم: لا حظّ لكم في هذه الدنيا فودعوها؟ هل ندلهم على طريق الآخرة وانت تعرفها طبعا؟ هل نعاقبهم لأنهم انحرفوا او تورطوا في جريمة ما او “رفقة” اصدقاء السوء؟ هؤلاء الشباب هم مصدر قلقي وخوفي، تصور ان احد ابنائي قال لي يوما بصراحة: انت تريد ان تعلمنا الاخلاق والقيم، هذه التي لم تزدك الا فقرا، هل تريدنا ان نظل مثلك فقراء... ادركت وقتها –وفي داخلي غصة كبيرة- ان الجيل تغير كثيرا وان ابناءنا الذين سرقتهم “موضة” الشطارة والنهب وقعوا في “الفخ” قل لي اذن من يتحمل مسؤولية هذا العقوق الذي بدأ من بيتي... ولن يتوقف عند بيت.. اي بيت.
قال لي: قديما سأل الكفر الفقر: الا اين ستذهب فلما اخبره قال له: خذني معك.
كنت احاول في كل مرة ان ارد على الرجل، لكن ما ان توقف، التفت الى يميني، فلم اجده امامي، لقد اختفى تماما وسط الجموع التي ازدحم بها الرصيف.
(الدستور)