اطمأنوا: ما زلنا نمارس أعمالنا (كالمعتاد)...!
حسين الرواشدة
جو 24 : دعونا نعترف بأننا جميعا كعرب نتحمل ما وصلنا إليه من تيه وخراب، لا أحد يستطيع اليوم أن يحاججنا بأنه قام بالواجب، أو خرج بريئا من الجرائم التي أصابت مجتمعاتنا واورثته كل ما نعانيه من هزائم وسقوط.
قبل ان نلوم هذه الشعوب التي تحركت باجسادها الثقيلة لتطالب بكرامتها وحريتها ،وقبل ان نحملها مسؤولية فشل (المشروع) والحنين الى العبودية ،علينا ان نعترف -كنخب وقوى سياسية وبقايا رموز ملهمة !- باننا نتحمل اثم كل هولاء: تضحياتهم ودماء شهدائهم والقيود التي اعيدت الى رقابهم،نتحمل مسؤولية اعادتهم الى بيت الطاعة، مسؤولية شيطنتهم واقصائهم ، نتحملها لاننا تركنا لهذه الاجساد التي لم تعد تتحمل المزيد من الهوان والمذلة ان تتحرك بلا رأس، وان تفكر بلا عقل ،وان تتصرف بوحي فطرتها وعواطفها، فيما انشغلنا عنها بحسابات مصالحنا وتركناها وحيدة تواجه اقدارها ..وكأنها ليست منا ولا علاقة لنا بها.
تصوروا الى اين انتهينا وسط هذه الفوضى التي تتخابط فيها الجثث مع الدماء وتختلط فيها صور الزعيم الخالد مع الابرياء الذين تحولوا فجأة الى ارهابيين وشياطين، وتشتبك على تخومها حقائب الاموال مع اغراءات النفوذ مع صرخات الجياع والفقراء .
لقد عدنا فعلا عقودا الى الوراء، الى( المعتاد) الذي تصورنا اننا خرجنا منه نحو فجر التغيير والاصلاح،الى عصر (الاسترقاق)الذي كدنا ان نلوح له بايدينا ونقول له :وداعا، الى حيث كان الزعيم الواحد يبشرنا بالحرية التي ستأتي على ظهر الدبابة، الى منطق الاقصاء والحذف وفتاوى الاخراج من الملة الوطنية والملة الدينية -لا فرق- ومن اسف ان لدينا جميعا ما يكفي من (قابلية) لابتلاع الطعم والابتهاج بمذاقه اللذيذ.
ما الذي تغير اذن؟ لا شيء ابدا، فما زلنا نمارس اعمالنا ..كالمعتاد..كالمعتاد وربما اقل مما تعودنا عليه.
المثقف يحذر في محاضرته من الخطر المحدق بالامة، ويدعو الى مزيد (!) من الوعي بما يضمره لنا الآخر من مؤامرات وما يعلنه من مخططات، ثم يدعو للنظام الصامد في وجه المؤامرة ،و يترجل عن المنصة ويتابع تفاصيل يومه كالمعتاد!
الكاتب يستل قلمه لتقديم مادته المقررة في موعدها، ويجتهد لكي يختار ما يشغل الناس ويدفعهم الى قراءة مقالته، وحيثما وضع اصبعه فثمة فتوق في ثوب الامة لا يتأخر في الاشارة اليها، والندب عليها، والدعوة لرتقها ثم لا ينسى وهو يكيل الاتهامات للاجساد الثقيلة التي ملأت الميادين بالضجيج وانحرفت عن طريق الامن والاستقرار ان يحذر: والا.. ثم يستسلم لهمومه الخاصة ومصالحه وتشابكات يومه كالمعتاد!
الديني الذي يعتلى منصة المنابر والفضائيات لا يتأخر في مطاردة التاريخ بصوره الجذابة وبطولاته، وفي نعي الامة التي استقالت من عقيدتها وقطعت صلتها بالسماء، ولا يجد سوى الصامتين امامه ليطلب منهم التأمين على دعواته بنهاية الجبارين، وقصف أعمار الغزاة ونصر الامة وانزال العقاب على الاعداء.. ثم ينزل كما صعد، ويغذ الخطى نحو أعماله وشؤونه ومشاكله.. كالمعتاد!
السياسي - بحكم تجربته - يتحدث بتفاؤل عن الجهود الدبلوماسية والخيارات الممكنة والانتصارات التي تحققت على جبهة الدفاع عن الامة وتجنيبها المخاطر القادمة.. ولا ينسى ان يطالب الناس بالتعقل والانضباط.. وعدم الاذعان لنداء العواطف المدمرة.. ولا يتردد في تحميل الناس مسؤولية التحمل والصبر، وتذكيرهم بفضيلة التوحد لمواجهة خطر الانقسام .. ثم يمضي الى بيته كالمعتاد!
الموظف يخرج الى وظيفته مبكرا، ويتفقد احيانا اخبار المواقع و الصحف والاموات ، ثم يقلب على عجل المعاملات التي يجدها على طاولته، او التعليمات التي صدرت اليه، ويستعد للتزلف او الاعتذار للمسؤول عنه، او استقبال المراجعين، او ساعة الاستراحة او موعد نهاية الدوام.. ثم يخرج الى الشارع او البيت كالمعتاد!
العامل، والطالب، والمعلم، والطبيب، وربة البيت، والعاطل عن العمل.. الخ كلهم يمارسون عاداتهم اليومية، ثم يتنهدون امام صور الشاشات المؤلمة، ويتناولون وجباتهم وقد يزجون اوقاتهم باللعب والسهر والتسلية.. ومن ثم يأوون الى منازلهم وفراشهم كالمعتاد.
من يتحمل مسؤولية هذا الخراب - اذن؟ ومن يتصدى لواجب تغييره اذن؟ ومن يتحرك لقطع هذا الارسال المريب وتعطيل خطوط الاستقبال التي حولتنا الى سوام لا مجرد عوام فقط؟
من يستطيع ان يعلن انه - وحده - من غير هذا القطيع، وان بوسعه ان يتقدم صفوف العاجزين ليحرجهم، او يأتي بما لم يأت به الحواضر لا الاوائل؟ من يملك ان يبرىء نفسه من هذا الدم المسفوح على جدران الامة كلها، او ان يتنصل من جريمة السقوط التي انتهينا اليها بدون استثناء؟
من يقدر ان يتخلص من حالة التشخيص والوصف والادانة والجلد، ليقول: انا الفاعل وسط هؤلاء المفعول بهم او انا الالف وسط هذه الياءات والتاءات المكسورة؟
من يلوم من اذن؟ ومن يعتذر لمن، ومن ينعي من، ومن يدعو على من؟ وهل غير الشهداء يستحقون ان نقول لهم: شكرا.. لقد خرجتم على شراكة المعتاد ولم تعودوا - مثلنا - للشهادة على هذا الزور والخراب.
(الدستور)
قبل ان نلوم هذه الشعوب التي تحركت باجسادها الثقيلة لتطالب بكرامتها وحريتها ،وقبل ان نحملها مسؤولية فشل (المشروع) والحنين الى العبودية ،علينا ان نعترف -كنخب وقوى سياسية وبقايا رموز ملهمة !- باننا نتحمل اثم كل هولاء: تضحياتهم ودماء شهدائهم والقيود التي اعيدت الى رقابهم،نتحمل مسؤولية اعادتهم الى بيت الطاعة، مسؤولية شيطنتهم واقصائهم ، نتحملها لاننا تركنا لهذه الاجساد التي لم تعد تتحمل المزيد من الهوان والمذلة ان تتحرك بلا رأس، وان تفكر بلا عقل ،وان تتصرف بوحي فطرتها وعواطفها، فيما انشغلنا عنها بحسابات مصالحنا وتركناها وحيدة تواجه اقدارها ..وكأنها ليست منا ولا علاقة لنا بها.
تصوروا الى اين انتهينا وسط هذه الفوضى التي تتخابط فيها الجثث مع الدماء وتختلط فيها صور الزعيم الخالد مع الابرياء الذين تحولوا فجأة الى ارهابيين وشياطين، وتشتبك على تخومها حقائب الاموال مع اغراءات النفوذ مع صرخات الجياع والفقراء .
لقد عدنا فعلا عقودا الى الوراء، الى( المعتاد) الذي تصورنا اننا خرجنا منه نحو فجر التغيير والاصلاح،الى عصر (الاسترقاق)الذي كدنا ان نلوح له بايدينا ونقول له :وداعا، الى حيث كان الزعيم الواحد يبشرنا بالحرية التي ستأتي على ظهر الدبابة، الى منطق الاقصاء والحذف وفتاوى الاخراج من الملة الوطنية والملة الدينية -لا فرق- ومن اسف ان لدينا جميعا ما يكفي من (قابلية) لابتلاع الطعم والابتهاج بمذاقه اللذيذ.
ما الذي تغير اذن؟ لا شيء ابدا، فما زلنا نمارس اعمالنا ..كالمعتاد..كالمعتاد وربما اقل مما تعودنا عليه.
المثقف يحذر في محاضرته من الخطر المحدق بالامة، ويدعو الى مزيد (!) من الوعي بما يضمره لنا الآخر من مؤامرات وما يعلنه من مخططات، ثم يدعو للنظام الصامد في وجه المؤامرة ،و يترجل عن المنصة ويتابع تفاصيل يومه كالمعتاد!
الكاتب يستل قلمه لتقديم مادته المقررة في موعدها، ويجتهد لكي يختار ما يشغل الناس ويدفعهم الى قراءة مقالته، وحيثما وضع اصبعه فثمة فتوق في ثوب الامة لا يتأخر في الاشارة اليها، والندب عليها، والدعوة لرتقها ثم لا ينسى وهو يكيل الاتهامات للاجساد الثقيلة التي ملأت الميادين بالضجيج وانحرفت عن طريق الامن والاستقرار ان يحذر: والا.. ثم يستسلم لهمومه الخاصة ومصالحه وتشابكات يومه كالمعتاد!
الديني الذي يعتلى منصة المنابر والفضائيات لا يتأخر في مطاردة التاريخ بصوره الجذابة وبطولاته، وفي نعي الامة التي استقالت من عقيدتها وقطعت صلتها بالسماء، ولا يجد سوى الصامتين امامه ليطلب منهم التأمين على دعواته بنهاية الجبارين، وقصف أعمار الغزاة ونصر الامة وانزال العقاب على الاعداء.. ثم ينزل كما صعد، ويغذ الخطى نحو أعماله وشؤونه ومشاكله.. كالمعتاد!
السياسي - بحكم تجربته - يتحدث بتفاؤل عن الجهود الدبلوماسية والخيارات الممكنة والانتصارات التي تحققت على جبهة الدفاع عن الامة وتجنيبها المخاطر القادمة.. ولا ينسى ان يطالب الناس بالتعقل والانضباط.. وعدم الاذعان لنداء العواطف المدمرة.. ولا يتردد في تحميل الناس مسؤولية التحمل والصبر، وتذكيرهم بفضيلة التوحد لمواجهة خطر الانقسام .. ثم يمضي الى بيته كالمعتاد!
الموظف يخرج الى وظيفته مبكرا، ويتفقد احيانا اخبار المواقع و الصحف والاموات ، ثم يقلب على عجل المعاملات التي يجدها على طاولته، او التعليمات التي صدرت اليه، ويستعد للتزلف او الاعتذار للمسؤول عنه، او استقبال المراجعين، او ساعة الاستراحة او موعد نهاية الدوام.. ثم يخرج الى الشارع او البيت كالمعتاد!
العامل، والطالب، والمعلم، والطبيب، وربة البيت، والعاطل عن العمل.. الخ كلهم يمارسون عاداتهم اليومية، ثم يتنهدون امام صور الشاشات المؤلمة، ويتناولون وجباتهم وقد يزجون اوقاتهم باللعب والسهر والتسلية.. ومن ثم يأوون الى منازلهم وفراشهم كالمعتاد.
من يتحمل مسؤولية هذا الخراب - اذن؟ ومن يتصدى لواجب تغييره اذن؟ ومن يتحرك لقطع هذا الارسال المريب وتعطيل خطوط الاستقبال التي حولتنا الى سوام لا مجرد عوام فقط؟
من يستطيع ان يعلن انه - وحده - من غير هذا القطيع، وان بوسعه ان يتقدم صفوف العاجزين ليحرجهم، او يأتي بما لم يأت به الحواضر لا الاوائل؟ من يملك ان يبرىء نفسه من هذا الدم المسفوح على جدران الامة كلها، او ان يتنصل من جريمة السقوط التي انتهينا اليها بدون استثناء؟
من يقدر ان يتخلص من حالة التشخيص والوصف والادانة والجلد، ليقول: انا الفاعل وسط هؤلاء المفعول بهم او انا الالف وسط هذه الياءات والتاءات المكسورة؟
من يلوم من اذن؟ ومن يعتذر لمن، ومن ينعي من، ومن يدعو على من؟ وهل غير الشهداء يستحقون ان نقول لهم: شكرا.. لقد خرجتم على شراكة المعتاد ولم تعودوا - مثلنا - للشهادة على هذا الزور والخراب.
(الدستور)