نعمة الصمت
حسين الرواشدة
جو 24 : أدركت -اخيرا- انه لا يوجد في الدنيا نعمة أفضل من نعمة “الصمت”، فالكلام الطويل عاقبته الندم ، وحرية الصراخ في الميادين و الشوراع تفضي الى الفوضى، والاحتجاجات التي تابعنا فصولها على مدى الاعوام الثلاثة الماضية اعادتنا الى الوراء.
أرجو ألاّ يتهمني القارئ الكريم بانني اتناقض مع نفسي حين ادعو الى الصمت بعد ان واظبت طويلا على الانتصار لحرية التعبير (والكلام) وعلى الاشادة بمطالبات الناس وحقهم في الاحتجاج ، ذلك انني اكتشفت بان ما فعلناه - للاسف - لم يخرج عن اطار (اثارة الضجيج) اما الطحين فقد كان صفرا بامتياز.
ما علينا، ربما يشعر احدنا احيانا بالاحباط فلا يجد ملاذا للخروج من محنته سوى (الانعزال)، ربما تجتاحنا احيانا موجة من الاكتئاب فنزهد في الكلام ونؤثر التأمل والسكون،ربما تفزعنا الشاشات بما تفيض به من دماء وصور فنقرر اغلاق النوافذ ونهرب الى الشارع او نخلد الى النوم.
مهما تكن الاسباب التي تدفعنا الى الترشيد في الكلام(اسوة بالترشيد في استخدام المياه والوقود ..والطعام ايضا..!)،فانني استأذن القارئ الكريم هذه المرة في مخالفة القاعدة التي استند اليها في مهنتي(اقصد قاعدة الكتابة والكلام) ، وادعو في هذا الوقت تحديدا الى حرية (الانصات) - ان شئت - حرية الصمت ، هذه التي يبدو كما اسلفت اننا بحاجة اليها ، لا باعتبارها فضيلة فقط ، وانما ضرورة لكي نشعر بعاقبتنا النفسية ، وفريضة - ايضاً - لارضاء ضمائرنا المتعبة من القلق.
طبعا مبررات الصمت عديدة، اقلها انها تريح نفسك من جهد لا نتيجة له، وتضمن األاّ تنام في المقبرة ولا تزعجك كوابيس الاموات، وتتفادى لغط التأويلات المغشوشة التي يمارسها النمامون -وما اكثرهم -، وتمارس فرصتك في متابعة المشهد من بعيد دون ان تنخرط في التفاصيل ،وتترك لغيرك من( الجهابذة ) القيام بالدور الذي استقلت منه .
بصراحة اكثر، اكتشفت ان المطلوب منا ان نتكلم وان نصرخ لكي لا نفعل ولا نعمل ،فالكلام يبرئنا امام غيرنا باننا قمنا بالواجب وزيادة، ويطمئن الاخرين بان هذا اقصى ما يمكن ان نقوم به ، وبالتالي فان الكلام قد يكون دليلا على العجز فيما قد يكون الصمت(والانصات)دليلين على الحيوية والعافية.
اذن ،ارجو ألاّ تظن بي السوء حين ادعو الى الصمت،ففي الدين ثمة دعوة الى الانصات ، عند تلاوة القرآن مثلا يتوجب على السامعين ان (ينصتوا) ويخشعوا لكي يقهموا ويتدبروا، وعندما يقف خطيب الجمعة على المنبر لا يجوز لجمهور المصلين ان يكسروا حاجز (الانصات) التزاماً بعدم افساد صلاتهم ، وبهذا المعنى - وغيره مما يتكرر من دعوات للامساك عن الكلام غير النافع - يكون الانصات (عبادة) ، أضف لذلك ان فقهاءنا وضعوا (الحياء والصمت) علامتين من علامات اكتمال فقه الفقيه وعلمه.
في تراثنا - ايضاً - ما يشير الى المعنى ذاته ، فكلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة كما يقول النفري الصوفي ، وصمت الانسان دليل على رزانته وحكمته ، واذا كان الكلام من فضه فالسكوت من ذهب ، وفي علم الصوفية يخضع (المريد) لتمارين صعبة يتعلم من خلالها (فن) الانصات والصمت ، كما ان الصيام عن الكلام كان امتحاناً لأحد الانبياء ، وهو في الفلسفة حضور للذات والروح واكتشاف للوجود الانساني ، او - بتعبير الجاحظ - (بلاغة) ، حيث السكون والاشارة للمعنى اعلى مراتب (البلاغة).
في مجتمعاتنا العربية -خاصة في السنوات الثلاث الاخيرة:- حيث الثورات التي لم تهدأ بعد- انتصر منطق (الثرثرة) على منطق (الانصات) ، وتغلبت ثقافة (الكلام) بأنواعه وأنماطه على ثقافة (الاستماع) او الصمت ، ويكفي ان تتابع ما يدور في ميادين احتجاجاتنا و فضاءاتنا السياسية والاعلامية من حوارات لتكتشف بأننا ما زلنا (فقراء) جداً لفقه (الانصات) ، وضحايا لهيمنة اللسان على العقل ، ومصابون بهوس غريب يدفعنا لمقاطعة المناظر وتوبيخه واصدار الاحكام ضده حتى قبل ان نسمع رأيه .
مشكلة ربيعنا العربي هي ان السنتنا انطلقت فجأة فيما ظلت عقولنا صامته ،واجسادنا تحركت في كل اتجاه فيما (رؤوسنا) ظلت جامدة،وشعوبنا انتفضت مطالبة بالتغيير فيما (نخبنا) اختطفت الكلام والصراخ وجيرته في ارصدتها التي كانت مفلسة،ولو حدث العكس ، وكان لدينا القدرة على ترشيد الكلام لصالح ابداع الافعال،او حتى الصوم عن الكلام لمواجهة موجات الشيطنة ومحاولات اجهاض ارادة الناس ،لما انطبق علينا المثل(اشبعتهم شتما وفازوا بالابل).
في وقت مضى من تاريخ البشرية كان (النطق) علامة تميز الانسان عن غيره من المخلوقات ، ثم اكتشفنا ان غيرنا من (الكائنات) تمارس هذه النعمة وتتقنها ، مما دفعنا الى تمييز الانسان (بالضحك) ثم (بالعقل) والارادة ، لكن الصحيح ان الانسان في جوهره مخلوق (منصت) لأنه لا يمكن له ان يجيد الكلام بوعي الا اذا تعلم (الانصات) ومن أسف اننا - في مدارسنا - نتعلم نطق الحروف قبل ان نتعلم (مهارة) الانصات.. وفضيلة الصمت.. وبلاغة الاقلاع عن (الكلام) متى كانت قوة اللسان اشد اغراء من قوة الجنان.
إذا سألتني لماذا تتكرر اخطاؤنا ، ولماذا تغيب قيمة التوافق في مجتمعاتنا ، ولماذا تفشل حواراتنا ، وتتصاعد خلافاتنا ، وتتصادم خياراتنا؟ لماذا تراجعنا في الاصلاح السياسي والنهوض الحضاري ، ولماذا افتقدنا ما افتقدناه من قيم الاحترام والتفاهم والتعاون؟ سأقول لك على الفور: لأننا نتكلم اكثر مما نسمع ، ونسمع اكثر مما ننصت.. لأننا سقطنا في امتحان (الانصات) ولم يعد (لآذاننا) سوى وظيفة (استراق) السمع.. وحتى هذه للاسف نستخدمها في المزيد من النميمة والثرثرة فقط.
(الدستور)
أرجو ألاّ يتهمني القارئ الكريم بانني اتناقض مع نفسي حين ادعو الى الصمت بعد ان واظبت طويلا على الانتصار لحرية التعبير (والكلام) وعلى الاشادة بمطالبات الناس وحقهم في الاحتجاج ، ذلك انني اكتشفت بان ما فعلناه - للاسف - لم يخرج عن اطار (اثارة الضجيج) اما الطحين فقد كان صفرا بامتياز.
ما علينا، ربما يشعر احدنا احيانا بالاحباط فلا يجد ملاذا للخروج من محنته سوى (الانعزال)، ربما تجتاحنا احيانا موجة من الاكتئاب فنزهد في الكلام ونؤثر التأمل والسكون،ربما تفزعنا الشاشات بما تفيض به من دماء وصور فنقرر اغلاق النوافذ ونهرب الى الشارع او نخلد الى النوم.
مهما تكن الاسباب التي تدفعنا الى الترشيد في الكلام(اسوة بالترشيد في استخدام المياه والوقود ..والطعام ايضا..!)،فانني استأذن القارئ الكريم هذه المرة في مخالفة القاعدة التي استند اليها في مهنتي(اقصد قاعدة الكتابة والكلام) ، وادعو في هذا الوقت تحديدا الى حرية (الانصات) - ان شئت - حرية الصمت ، هذه التي يبدو كما اسلفت اننا بحاجة اليها ، لا باعتبارها فضيلة فقط ، وانما ضرورة لكي نشعر بعاقبتنا النفسية ، وفريضة - ايضاً - لارضاء ضمائرنا المتعبة من القلق.
طبعا مبررات الصمت عديدة، اقلها انها تريح نفسك من جهد لا نتيجة له، وتضمن األاّ تنام في المقبرة ولا تزعجك كوابيس الاموات، وتتفادى لغط التأويلات المغشوشة التي يمارسها النمامون -وما اكثرهم -، وتمارس فرصتك في متابعة المشهد من بعيد دون ان تنخرط في التفاصيل ،وتترك لغيرك من( الجهابذة ) القيام بالدور الذي استقلت منه .
بصراحة اكثر، اكتشفت ان المطلوب منا ان نتكلم وان نصرخ لكي لا نفعل ولا نعمل ،فالكلام يبرئنا امام غيرنا باننا قمنا بالواجب وزيادة، ويطمئن الاخرين بان هذا اقصى ما يمكن ان نقوم به ، وبالتالي فان الكلام قد يكون دليلا على العجز فيما قد يكون الصمت(والانصات)دليلين على الحيوية والعافية.
اذن ،ارجو ألاّ تظن بي السوء حين ادعو الى الصمت،ففي الدين ثمة دعوة الى الانصات ، عند تلاوة القرآن مثلا يتوجب على السامعين ان (ينصتوا) ويخشعوا لكي يقهموا ويتدبروا، وعندما يقف خطيب الجمعة على المنبر لا يجوز لجمهور المصلين ان يكسروا حاجز (الانصات) التزاماً بعدم افساد صلاتهم ، وبهذا المعنى - وغيره مما يتكرر من دعوات للامساك عن الكلام غير النافع - يكون الانصات (عبادة) ، أضف لذلك ان فقهاءنا وضعوا (الحياء والصمت) علامتين من علامات اكتمال فقه الفقيه وعلمه.
في تراثنا - ايضاً - ما يشير الى المعنى ذاته ، فكلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة كما يقول النفري الصوفي ، وصمت الانسان دليل على رزانته وحكمته ، واذا كان الكلام من فضه فالسكوت من ذهب ، وفي علم الصوفية يخضع (المريد) لتمارين صعبة يتعلم من خلالها (فن) الانصات والصمت ، كما ان الصيام عن الكلام كان امتحاناً لأحد الانبياء ، وهو في الفلسفة حضور للذات والروح واكتشاف للوجود الانساني ، او - بتعبير الجاحظ - (بلاغة) ، حيث السكون والاشارة للمعنى اعلى مراتب (البلاغة).
في مجتمعاتنا العربية -خاصة في السنوات الثلاث الاخيرة:- حيث الثورات التي لم تهدأ بعد- انتصر منطق (الثرثرة) على منطق (الانصات) ، وتغلبت ثقافة (الكلام) بأنواعه وأنماطه على ثقافة (الاستماع) او الصمت ، ويكفي ان تتابع ما يدور في ميادين احتجاجاتنا و فضاءاتنا السياسية والاعلامية من حوارات لتكتشف بأننا ما زلنا (فقراء) جداً لفقه (الانصات) ، وضحايا لهيمنة اللسان على العقل ، ومصابون بهوس غريب يدفعنا لمقاطعة المناظر وتوبيخه واصدار الاحكام ضده حتى قبل ان نسمع رأيه .
مشكلة ربيعنا العربي هي ان السنتنا انطلقت فجأة فيما ظلت عقولنا صامته ،واجسادنا تحركت في كل اتجاه فيما (رؤوسنا) ظلت جامدة،وشعوبنا انتفضت مطالبة بالتغيير فيما (نخبنا) اختطفت الكلام والصراخ وجيرته في ارصدتها التي كانت مفلسة،ولو حدث العكس ، وكان لدينا القدرة على ترشيد الكلام لصالح ابداع الافعال،او حتى الصوم عن الكلام لمواجهة موجات الشيطنة ومحاولات اجهاض ارادة الناس ،لما انطبق علينا المثل(اشبعتهم شتما وفازوا بالابل).
في وقت مضى من تاريخ البشرية كان (النطق) علامة تميز الانسان عن غيره من المخلوقات ، ثم اكتشفنا ان غيرنا من (الكائنات) تمارس هذه النعمة وتتقنها ، مما دفعنا الى تمييز الانسان (بالضحك) ثم (بالعقل) والارادة ، لكن الصحيح ان الانسان في جوهره مخلوق (منصت) لأنه لا يمكن له ان يجيد الكلام بوعي الا اذا تعلم (الانصات) ومن أسف اننا - في مدارسنا - نتعلم نطق الحروف قبل ان نتعلم (مهارة) الانصات.. وفضيلة الصمت.. وبلاغة الاقلاع عن (الكلام) متى كانت قوة اللسان اشد اغراء من قوة الجنان.
إذا سألتني لماذا تتكرر اخطاؤنا ، ولماذا تغيب قيمة التوافق في مجتمعاتنا ، ولماذا تفشل حواراتنا ، وتتصاعد خلافاتنا ، وتتصادم خياراتنا؟ لماذا تراجعنا في الاصلاح السياسي والنهوض الحضاري ، ولماذا افتقدنا ما افتقدناه من قيم الاحترام والتفاهم والتعاون؟ سأقول لك على الفور: لأننا نتكلم اكثر مما نسمع ، ونسمع اكثر مما ننصت.. لأننا سقطنا في امتحان (الانصات) ولم يعد (لآذاننا) سوى وظيفة (استراق) السمع.. وحتى هذه للاسف نستخدمها في المزيد من النميمة والثرثرة فقط.
(الدستور)