عن الوحدة والفرقة في جنازة الشهيد إسماعيل هنية
زياد ابحيص
جو 24 :
جنازة الشهيد إسماعيل هنية تجسيد حي لما يمكن أن يوحد هذه الأمة، وما يمكن أن يكون عنوانها لتتعالى على الجراح الغائرة وجدران الدم التي بنتها أوهام حسمٍ مذهبي مستحيل.
لقد مرّ (14) قرناً على انقسام مذهبي تراوحت علاقة طرفيه بين المواجهة والتعايش والوحدة في وجه أعداء الخارج، تداخلت فيه الاعتبارات السياسية والشعوبية والعقدية، وإذا ما كنا نريد الخروج من ظلام ليل المواجهة الداخلية فإن الطريق الوحيد إلى ذلك اليوم هو التوحد في وجه العدو الأكثر خطراً على أمتنا، المشروع الصهيوني خنجر الغرب المغروز في صدر أمتنا…
إن بناء جسور الوحدة مع إيران ومع الشيعة من أبناء منطقتنا في مواجهة الصهيونية والغرب ليس في مقام "أكل الميتة" كما يجري تسويقه، بل هو خيار الأمة الوحيد الممكن أمام التحديات التي تحدق بها، وهو الوحيد القابل للتحقق لو قُرِئت دروس تاريخٍ لم يحصل أن تمكنت فيه فرق الأمة من الحسم في المواجهات داخلية.
رغم أن دروس التاريخ تُستنطق ليدّعى أن الحسم الداخلي لا بد أن يسبق مناجزة عدو الخارج، إلا أن ما حصل فعلياً في مواجهة الصليبيين والتتار كان أن الأكثرية السنية حين كانت تمتلك دولة ومشروعاً تمكنت من وقف أوهام التوسع عند بعض الأقليات المقاتلة من الشيعة والباطنية للتفرغ للعدو الخارجي، بل وتمكنت من بناء صف واحد معها أحياناً في مواجهة العدو الخارجي…
من واجب كل من يتعرض لعدوان مذهبي يحاول محوه أن يدافع عن نفسه ومعتقده وهو صاحب حق إذ يفعل، لكن ما تجلبه الحرب من آلام وأحقاد يجب أن لا يدفعه ليتوهم أن الحسم وإدراك الثارات ممكن في هذا الصراع… والمؤكد طبعاً أنه لا يملك أن يطالب بمنع خوض المعركة مع العدو الخارجي لأن له ثأراً داخلياً لم يدركه!
مثل هذا المطلب ساقط وغير محق بغض النظر عن كون طالبه مظلوماً أو ظالماً؛ فهو غير محق ببساطة لأنه عبثي، لأنه يريد شل طاقات الأمة ووقف دفاعها الوجودي عن نفسها إلى أن يحسم صراعاً متوقفاً وغير قابل للحسم…عبثي ومدمر لأنه يحرّم على من يقاوم المشروع الصهيوني أن يفتح جبهته وأن يمد جسور وحدة الأمة فيها -وهي جسور لا يمكن خوض هذه المعركة من دونها- ويطالبه بأن ينتظر حسماً داخلياً لن يأتي بل ولا يجري العمل على تحقيقه!
ويصبح الأمر أسوأ حين تقدم أوهام الحسم والثأر مبرراً للنوم في حضن الغرب والتحالف مع الصهاينة، للحسم ضد أبناء المنطقة الطبيعيين، وأبناء الأمة المختلفين في المذهب، وتقديم الحسم الموهوم معهم على محاولة التحرر من عدو كان هو من أسقط الدولة المركزية للأمة وحرص على تقسيمها وتقطيعها واستعمار أقطارها وزرع قاعدته المتقدمة بينها لاستدامة تخلفها وفرقتها، وهو من نصّب سلطات محلية متصالحة معه تحقق معادلة استعمار غير مباشر، وما زال يستديمها ويمنع استعادة هذه الكيانات القطرية لإرادتها، ويحافظ عليها معبرة عن إرادته في وجه إرادة شعوبها.
المعضلة الأسوأ اليوم هو أن هذه الدعوة تأتي بينما الأكثرية السنية للأمة ليست لها دولةٌ تعبر عن تطلعاتها، وكل كياناتها السياسية ما تزال رهن معادلة استعمار غربي غير مباشر، استعمارٌ أخذ يستعيد الشكل المباشر أحياناً عبر القواعد العسكرية، ومع ذلك تخرج أصوات تطالب بالحسم المذهبي مع أبناء الأمة من الشيعة، وترى العداء ضد الداخل أَولى من استعادة الإرادة والتحرر من سطوة الخارج، لكنها في المحصلة لا تصب إلا في مزيد من تمكين الخارج وهيمنته، وتفشل في الحفاظ على أي موقع حين تتعرض لمحاولات حسم مذهبي؛ لأن من لا يملك إرادته وقراره ليس له أفق في الحسم ضد أحد… لا الداخل ولا الخارج، لأن الحرب في أصلها صراع إرادات، ومن لا يملك إرادته لن يصلح لأي حرب.
* الكاتب باحث في شؤون القدس