إدارة البحث العلمي في الأردن: بين الفرص الضائعة والحاجة إلى التغيير
د. محمد تركي بني سلامة
جو 24 :
إدارة ملفات وشؤون البحث العلمي في الأردن هي مسألة تستحق التأمل والبحث الجاد. فعلى الرغم من التسليم بأهمية البحث العلمي في دعم الاقتصاد الوطني وتعزيز التطور المجتمعي، إلا أن هناك تساؤلات عديدة تثار حول كيفية تعاملنا مع هذا المجال الحيوي. البحث العلمي يعدّ ركيزة أساسية لنهضة الأمم وتطورها، والاستثمار فيه يعكس مدى تقدم الدول ووعيها بأهمية المعرفة. إذا نظرنا إلى الدول المتقدمة، وحتى تلك التي كانت تُصنف كدول نامية حتى وقت قريب مثل سنغافورة، ماليزيا، كوريا الجنوبية، وتركيا، نجد أنها أولت البحث العلمي اهتمامًا كبيرًا، مما أدى إلى تحقيق معجزات اقتصادية وقفزات نوعية في مختلف المجالات.
عندما نتأمل واقع البحث العلمي في الأردن، نجد أن الصورة ليست على القدر المطلوب من الإشراق. رغم تعدد الجامعات الأردنية والمجلات العلمية الصادرة عنها، ورغم دعم وزارة التعليم العالي لبعض هذه المجلات، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لإبراز هذه المجلات على الساحة الدولية. قليل منها فقط استطاع الدخول إلى قواعد البيانات العالمية مثل Scopus. في مجال العلوم الإنسانية، على سبيل المثال، نجد أن مجلة "دراسات" الصادرة عن الجامعة الأردنية هي الوحيدة المصنفة في Scopus من بين أكثر من 25 مجلة تصدرها الجامعات الأردنية الرسمية والخاصة. هذه الفجوة بين الكم والكيف تطرح تساؤلات حول أسباب تراجع مجلات العلوم الإنسانية وعدم قدرتها على مواكبة التطور الحاصل في مجالات العلوم التطبيقية.
البعض قد يرى أن السبب يكمن في طبيعة العلوم الإنسانية ذاتها، وأنها لا تحظى بنفس القدر من الاهتمام والدعم الذي تحظى به العلوم التطبيقية. ولكن الحقيقة هي أن العلوم الإنسانية تلعب دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الثقافية والفكرية للأمة. فهي تغذي العقول وتساهم في بناء الرؤى الفكرية والفلسفية والإبداعية التي تعد أساسًا لأي نهضة حقيقية. التقليل من شأن هذه العلوم أو تجاهل أهميتها هو خطأ استراتيجي يجب تصحيحه.
من جانب آخر، لا يمكن تجاهل دور القائمين على إدارة المجلات العلمية في هذا التراجع. العديد من المسؤولين عن تحرير المجلات العلمية يفتقرون إلى الكفاءة اللازمة والرؤية التطويرية التي تمكّنهم من الارتقاء بهذه المجلات إلى المستوى المطلوب. انعكس ذلك سلبًا على سمعة هذه المجلات، لدرجة أن وزارة التعليم العالي اضطرت إلى سحب بعض المجلات من الجامعات التي كانت تصدرها، والبحث عن جامعات جديدة تتبنى هذه المجلات وتطورها. هذا القرار يعكس حالة من عدم الرضا عن أداء تلك المجلات وعن الطريقة التي تُدار بها.
اختيار رؤساء هيئات تحرير المجلات العلمية يجب أن يستند إلى معايير علمية بحتة، وليس إلى علاقات شخصية أو مصالح ضيقة. العلم يجب أن يكون هو الأساس في اتخاذ مثل هذه القرارات، لأن المجلات العلمية هي مرآة تعكس مستوى البحث العلمي في الجامعات، وتلعب دورًا بارزًا في تصنيفها وفق المعايير العالمية. الإمام الشافعي رحمه الله قال: "من طلب العُلا ... سهر الليالي"، ولكن في بلدنا، يبدو أن من يسعى إلى الارتقاء يعتمد على العلاقات الشخصية والواسطة لتحقيق أهدافه، وهذا يعطل حركة التقدم ويعيق تحقيق طموحات العديد من الباحثين الجادين.
تطوير البحث العلمي يحتاج إلى رؤية شاملة تستند إلى دعم حقيقي من الدولة، وإلى كوادر علمية مؤهلة قادرة على إدارة هذا القطاع بكفاءة. يجب أن ندرك أن البحث العلمي ليس مجرد رفاهية، بل هو ضرورة ملحة لتحقيق التنمية المستدامة ولتحقيق مكانة مرموقة على الساحة الدولية. تحسين جودة المجلات العلمية وتطويرها لتكون منافسة على المستوى العالمي هو هدف يجب أن يسعى الجميع لتحقيقه، ويتطلب من جميع الأطراف تحمل المسؤولية والعمل بجد وإخلاص.
في الختام، من الضروري التأكيد على أهمية البحث العلمي كركيزة أساسية لتقدم الأمم. تجاوز المعوقات البشرية التي تقف في طريقه والعمل معًا لتحقيق التميز في مجالات العلم والمعرفة هو أمر لا بد منه إذا كنا نطمح إلى مستقبل أفضل.