من الفرز الاجتماعي إلى البناء الوطني: الانتخابات الأردنية واختبار الديمقراطية
د. محمد تركي بني سلامة
جو 24 :
تستعد المملكة الأردنية الهاشمية لإجراء انتخابات نيابية مهمة في ظل ظروف إقليمية غير مستقرة وغير مسبوقة، حيث يشهد الشرق الأوسط توترات متزايدة نتيجة لأحداث السابع من أكتوبر وما تلاها من تداعيات سياسية وأمنية. يُعد إجراء هذه الانتخابات في هذا التوقيت تحديًا وطنيًا كبيرًا، ويُعزز من صورة الأردن كدولة تلتزم بمسارها الديمقراطي وتحافظ عليه رغم الصعوبات التي تواجهها على المستويين الداخلي والخارجي.
ما يميز هذه الانتخابات أنها تأتي كأول خطوة في تنفيذ خارطة طريق الإصلاح السياسي التي تم إطلاقها بمرجعية ملكية. وتهدف هذه الخارطة إلى تحديث العملية السياسية بشكل تدريجي على مدى عشر سنوات، مع تعزيز دور الأحزاب السياسية وتمكينها من لعب دور أكبر في البرلمان وتشكيل الحكومات. تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من مليون ونصف ناخب سيشاركون في هذه الانتخابات، بينما تأمل الهيئة المستقلة للانتخابات أن تصل نسبة المشاركة إلى ما بين 30% و35% من مجموع خمسة ملايين ناخب مؤهل. ومع أن التوقعات قد تكون منخفضة، إلا أن الأمل يظل معقودًا على تحقيق نسبة مشاركة تعكس الثقة الشعبية في العملية الانتخابية وتدعم مسار الإصلاح السياسي.
ورغم الانتقادات التي أثيرت حول العملية الانتخابية، بما في ذلك تأثير المال السياسي وغياب الخطاب السياسي البنّاء، يجب التأكيد على أن المشاركة هي الأصل، والمقاطعة يجب أن تبقى استثناءً. فالمسؤولية الوطنية تفرض على كل مواطن أن يُدلي بصوته، لا سيما في هذه المرحلة الحساسة التي تشهدها المنطقة. المشاركة ليست فقط حقًا، بل واجب وطني وأساسي لضمان تقدم العملية الديمقراطية. في مثل هذه الأوقات، ينبغي أن يكون هم المواطن الأول هو اختيار النواب الأكفاء القادرين على تمثيل مصالح الشعب بعيدًا عن الاعتبارات الشخصية أو الولاءات الضيقة التي قد تؤدي إلى إضعاف الديمقراطية وتقويض مبدأ سيادة القانون.
في المجتمعات التقليدية، غالبًا ما تتحول الانتخابات إلى مناسبات اجتماعية تعزز الانتماءات القبلية والطائفية والمناطقية، مما يؤدي إلى فرز المجتمع على أسس ضيقة بدلاً من أن تكون الانتخابات وسيلة لبناء الوطن وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة. هذه الديناميات تُعيد إحياء العصبيات القديمة، مما يعيق تقدم الديمقراطية ويحول دون بناء دولة المؤسسات والقانون التي يسعى إليها الجميع. تفضيل الروابط الاجتماعية والعشائرية على الانتماءات السياسية يُضعف من دور الأحزاب ويحول دون تحقيق نظام سياسي مستدام يعتمد على التعددية الحزبية والمشاركة الشعبية الحقيقية.
لذلك، تُعد هذه الانتخابات اختبارًا حقيقيًا لخارطة الطريق الديمقراطية في الأردن. فهي تمثل بداية التحول نحو نظام سياسي يقوم على التعددية الحزبية، حيث من المتوقع أن تلعب الأحزاب السياسية دورًا أكبر في المستقبل، سواء عبر السيطرة على البرلمان أو تشكيل الحكومات. الهدف من هذا التحول هو إحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية الأردنية، بما يُسهم في بناء نظام ديمقراطي يعزز دولة المؤسسات والقانون. ومع ذلك، فإن الأحزاب السياسية تواجه تحديات كبيرة تمنعها من الوصول إلى السلطة، أبرزها الثقافة السائدة التي تفضل الولاءات الاجتماعية والقبلية على العمل الحزبي المنظم.
لا شك أن تجاوز هذه التحديات يتطلب من الأحزاب تقديم برامج سياسية واقعية وقادرة على تلبية تطلعات المواطنين. هذه الانتخابات تمثل فرصة حقيقية للأحزاب لإثبات قدرتها على التأقلم مع الواقع الجديد وتقديم حلول عملية للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد. وفي ظل هذه الديناميات، قد نشهد تغييرات كبيرة في المشهد الحزبي، حيث قد تزول بعض الأحزاب غير القادرة على التأقلم مع المتغيرات السياسية الجديدة.
في النهاية، يبقى الخيار الأهم هو تقديم المصلحة الوطنية على أي حسابات أخرى. إن الانتخابات ليست مجرد إجراء روتيني، بل هي فرصة لبناء مستقبل أفضل للأردن. الكرة الآن في مرمى الشعب، حيث يتحمل كل مواطن مسؤوليته في اختيار من يُمثل الشعب بأفضل طريقة، والعمل على تحقيق الإصلاحات المنشودة، ومحاربة الفساد، وتطبيق سيادة القانون، ودفع عجلة التغيير السياسي نحو الأمام .