فنانون على الرصيف : يا حيف!
حسين الرواشدة
جو 24 : اذا أردت ان تعرف ما تتمتع به الدولة – أي دولة – من عافية فحسبك ان تسأل عن احوال اهل “الثقافة” والفن، وان احوالهم – للاسف – ليست على ما يرام، فان من واجبنا ان نراجع حساباتنا (هل اقول نتحسس رؤوسنا) لان ما اصاب هؤلاء لا يتعلق بهم فقط، وانما يعكس حالة “البؤس” التي تعرض لها مجتمعنا على مدى السنوات الماضية.
التقرير الذي نشرته الصحفية هدا السرحان – مؤخرا – حول اوضاع الفنانين الاردنيين يصطدمنا مرتين: مرة لأن انتفاضة الفنانين قبل نحو اكثر من عام انتهت دون ان توقظ فينا مجرد سؤال عما قدمناه لهم، ودون ان تتولى وسائل اعلامنا ومؤسساتنا مسؤولية متابعة قضيتهم، حتى فوجئنا بأصدائها وقد ترددت عبر وسائل اعلام أجنبية (السي إن إن)، ومرة اخرى تصدمنا ايضا “القصص” المفزعة التي رواها بعض اخواننا الفنانين حول معاناتهم، حيث اضطرت احدى الفنانات المعروفات الى العمل في وظيفة “عاملة تنظيفات” فيما استقالت اخرى من وظيفة “الحراسة الامنية” على بوابة احد المولات بعد ان احرجتها نظرات زملائها. فيما أشاح أحد الفنانين الكبار بوجهه – خجلا – من “المعارف” وهو يمارس عمله الجديد “ساعياً” في احد المقاهي.
هذا، بالطبع، جزء من الصورة المتاحة، لكن ثمة اجزاء اخرى غابت عن التقرير، اما لان “المسكوت عنه” اسوأ من ان يشهر على العلن، واما لان آخرين من ضحايا “الفن” آثروا الانسحاب والاعتزال داخل بيوتهم بعدما يأسوا من الحصول على فرصة عمل او يد تساعدهم، فيما لا يزال في الذاكرة اسماء آخرين يعيشون معاناتهم مع المرض أو العوز أو “الحسرة” دون ان يعرف بهم أحد.
بعد ان عجزت رواتبهم التقاعدية عن سداد الالتزامات والديون، وهؤلاء لا تنقصهم “المواهب” ولا “براعة” الكسب والاكتساب بالطرق التي نعرفها، لكنهم انحازوا الى اخلاقهم وقيمهم ومبادئهم وآثروا الاحتمال والصبر على الفاقة والعوز لكي لا يمدوا أيديهم للآخرين، أو يبيعوا “ضمائرهم” لمن يدفع اكثر .
ما حصل لم يكن صدفة، فاندحار الفن والثقافة والجمال من مجتمعنا وحياتنا تزامن مع مرحلة انتصر فيها منطق “البزنس” على منطق “القيم”، واستسلمت فيها السياسة لواقع “الخصخصة”، وتعرضت فيها المجتمعات لحالة من “التصحر” بعد ان تجردت من عوامل قوتها، ورضخت لمقررات “الاستهلاك” التي افقدتها هويتها وصوتها.
قلت فيما مضى ان الفنان والمثقف حين يصرخ او يئن تحت وطأة الاحساس بالتهميش والاقصاء، أو الجوع والعوز، ثم لا يجد أحداً يسمعه أو يرأف بحاله أو يعتذر اليه من هذا الاهمال، فمن واجبنا ان ننتبه الى عمق “الأزمة” التي يعاني منها مجتمعنا، لا اتحدث هنا عن الفن الرخيص والثقافة المعلبة، ولا عن الفنانين العابرين والمثقفين “تحت الطلب” وانما عن الفن الراقي والثقافة المنتجة، واهلهما من الفنانين والمثقفين الذين يشكلون “ضميرنا” العام.. عندها تكون “أزمتنا” ازمة خطيرة، لانها تتعلق بتعطل “الضمير” وغياب الجمال والأنس، وتشويه الوعي، مقابل صعود الكراهية والعنف وبروز القبح والوعي الزائف، والتطرف والعنف ايضاً.
حين غاب الفن الراقي، وهرب أهله منه الى “البحث” عن المعاش، وحين غابت الثقافة الأصيلة، وملأ آخرون “دروبها” بالانتهازية والابتزاز، افتقد مجتمعنا “عافيته” وافتقدنا احساسنا بالناس وقضاياهم، واصبحت أرواحنا “يابسة” تماما، وصدورنا موحشة، ذلك ان غياب الثقافة والفن من حياتنا أحد أهم الاسباب التي تقف وراء ما نعانيه من يأس وقلق ووحشة وعدم يقين.
لا يكفي أبداً، ان نعتذر لهؤلاء الفنانين والمثقفين الذين أصبحوا “على الرصيف”، ولا ان ندعو الى انصافهم واعادة الاعتبار “لمكانتهم” التي تليق بمجتمعنا، وانما لا بد أن نتحرك على الفور، حكومة ومؤسسات مدنية، وفي مقدمة ذلك نقابة الفنانين التي نعرف امكانياتها المتواضعة، لكي ننقذ هذين القطاعين ونعيدهما الى سابق عهدهما، حيث كانا “منارتين” أردنيتين سامقتين، يعرفهما البعيد والقريب.
ومع أنني اخشى ان تبقى هذه الصرخات تتردد في فراغ، الا أنني اتمنى على اخواننا الفنانين والمثقفين والمثقفين – تحديدا – ان يرفعوا اصواتهم مجددا للمطالبة بحقوقهم، وان لا يتركوا قضية “الفن” تستسلم لقدرها المحتوم، فهم لا يدافعون – فقط – عن اوضاعهم وحقوقهم في الحياة الكريمة، وانما عن “الفن” الذي يعني بالنسبة لهم ولنا “الحياة” الراقية والمؤنسة، كما يعني “المجتمع” النابض بالحيوية والجمال..
(الدستور)
التقرير الذي نشرته الصحفية هدا السرحان – مؤخرا – حول اوضاع الفنانين الاردنيين يصطدمنا مرتين: مرة لأن انتفاضة الفنانين قبل نحو اكثر من عام انتهت دون ان توقظ فينا مجرد سؤال عما قدمناه لهم، ودون ان تتولى وسائل اعلامنا ومؤسساتنا مسؤولية متابعة قضيتهم، حتى فوجئنا بأصدائها وقد ترددت عبر وسائل اعلام أجنبية (السي إن إن)، ومرة اخرى تصدمنا ايضا “القصص” المفزعة التي رواها بعض اخواننا الفنانين حول معاناتهم، حيث اضطرت احدى الفنانات المعروفات الى العمل في وظيفة “عاملة تنظيفات” فيما استقالت اخرى من وظيفة “الحراسة الامنية” على بوابة احد المولات بعد ان احرجتها نظرات زملائها. فيما أشاح أحد الفنانين الكبار بوجهه – خجلا – من “المعارف” وهو يمارس عمله الجديد “ساعياً” في احد المقاهي.
هذا، بالطبع، جزء من الصورة المتاحة، لكن ثمة اجزاء اخرى غابت عن التقرير، اما لان “المسكوت عنه” اسوأ من ان يشهر على العلن، واما لان آخرين من ضحايا “الفن” آثروا الانسحاب والاعتزال داخل بيوتهم بعدما يأسوا من الحصول على فرصة عمل او يد تساعدهم، فيما لا يزال في الذاكرة اسماء آخرين يعيشون معاناتهم مع المرض أو العوز أو “الحسرة” دون ان يعرف بهم أحد.
بعد ان عجزت رواتبهم التقاعدية عن سداد الالتزامات والديون، وهؤلاء لا تنقصهم “المواهب” ولا “براعة” الكسب والاكتساب بالطرق التي نعرفها، لكنهم انحازوا الى اخلاقهم وقيمهم ومبادئهم وآثروا الاحتمال والصبر على الفاقة والعوز لكي لا يمدوا أيديهم للآخرين، أو يبيعوا “ضمائرهم” لمن يدفع اكثر .
ما حصل لم يكن صدفة، فاندحار الفن والثقافة والجمال من مجتمعنا وحياتنا تزامن مع مرحلة انتصر فيها منطق “البزنس” على منطق “القيم”، واستسلمت فيها السياسة لواقع “الخصخصة”، وتعرضت فيها المجتمعات لحالة من “التصحر” بعد ان تجردت من عوامل قوتها، ورضخت لمقررات “الاستهلاك” التي افقدتها هويتها وصوتها.
قلت فيما مضى ان الفنان والمثقف حين يصرخ او يئن تحت وطأة الاحساس بالتهميش والاقصاء، أو الجوع والعوز، ثم لا يجد أحداً يسمعه أو يرأف بحاله أو يعتذر اليه من هذا الاهمال، فمن واجبنا ان ننتبه الى عمق “الأزمة” التي يعاني منها مجتمعنا، لا اتحدث هنا عن الفن الرخيص والثقافة المعلبة، ولا عن الفنانين العابرين والمثقفين “تحت الطلب” وانما عن الفن الراقي والثقافة المنتجة، واهلهما من الفنانين والمثقفين الذين يشكلون “ضميرنا” العام.. عندها تكون “أزمتنا” ازمة خطيرة، لانها تتعلق بتعطل “الضمير” وغياب الجمال والأنس، وتشويه الوعي، مقابل صعود الكراهية والعنف وبروز القبح والوعي الزائف، والتطرف والعنف ايضاً.
حين غاب الفن الراقي، وهرب أهله منه الى “البحث” عن المعاش، وحين غابت الثقافة الأصيلة، وملأ آخرون “دروبها” بالانتهازية والابتزاز، افتقد مجتمعنا “عافيته” وافتقدنا احساسنا بالناس وقضاياهم، واصبحت أرواحنا “يابسة” تماما، وصدورنا موحشة، ذلك ان غياب الثقافة والفن من حياتنا أحد أهم الاسباب التي تقف وراء ما نعانيه من يأس وقلق ووحشة وعدم يقين.
لا يكفي أبداً، ان نعتذر لهؤلاء الفنانين والمثقفين الذين أصبحوا “على الرصيف”، ولا ان ندعو الى انصافهم واعادة الاعتبار “لمكانتهم” التي تليق بمجتمعنا، وانما لا بد أن نتحرك على الفور، حكومة ومؤسسات مدنية، وفي مقدمة ذلك نقابة الفنانين التي نعرف امكانياتها المتواضعة، لكي ننقذ هذين القطاعين ونعيدهما الى سابق عهدهما، حيث كانا “منارتين” أردنيتين سامقتين، يعرفهما البعيد والقريب.
ومع أنني اخشى ان تبقى هذه الصرخات تتردد في فراغ، الا أنني اتمنى على اخواننا الفنانين والمثقفين والمثقفين – تحديدا – ان يرفعوا اصواتهم مجددا للمطالبة بحقوقهم، وان لا يتركوا قضية “الفن” تستسلم لقدرها المحتوم، فهم لا يدافعون – فقط – عن اوضاعهم وحقوقهم في الحياة الكريمة، وانما عن “الفن” الذي يعني بالنسبة لهم ولنا “الحياة” الراقية والمؤنسة، كما يعني “المجتمع” النابض بالحيوية والجمال..
(الدستور)